في "قرية الوفاء".. أيتامُ غزة يطلون من شبابيكَ ملونة
في زاوية من الخيمة يجلس "إبراهيم" ويمسك بصور أبيه وأخويه الذين قتلهم الاحتلال أمام عينيه، يرفض الحديث والتفاعل مع من حوله، رغم كل محاولات الأم "رجاء حمدونة" في علاجه نفسيًا.
"كأنه فيلم من خيال"، تقولها "رجاء" للقدس 360، وتعود بذاكرتها المتعبة إلى يوم الأهوال العصيبة كما تصفه، فكيف ستسعف الكلمات أمًا قُتل أبناؤها أمام عينيها وارتقى زوجها شهيدًا بعد أن دهستهم دبابة الاحتلال المجنزرة بعنجهية!؟
كانت "رجاء" يومها تعجن لتسد رمق أطفالها، وتخبز على الصاج، حين اشتد صوت الطائرات الحربية فوقهم، فتركت الخبز ودخلت الخيمة هي وأبناؤها، وحين انخفض صوت الطائرات جوًا، صخب صوت الطراد البحري الإسرائيلي، الذي كان يقصف بشكل عنيف.
تروي "حمدونة" ما حدث: "كُلْنا انبطحنا على أرض الخيمة، وصرخ أطفالي لا نريد طعامًا ... فقط لا نريد أن نموت"، فقد كانت ليلة رعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث لا حركة ولا ضوء ولا صوت إلا ضوء أصفر قوي يقترب منهم، هو لون الجرافات التي كانت تحاول انتشال الجثامين من تحت أنقاض البيوت التي قُصفت ليلًا.
تحكي: "وقت الفجر سمعنا صوت جنازير الدبابات يقترب منا، فلم يتوقف أبنائي عن البكاء من الرعب والخوف الذي سكن قلوبهم"، ومع شقشقة ضوء الصباح اقتربت دبابتان من خيمتهم وأطلقت عليهم النار بشكل مباشر، فنزف زوجها وابناها حتى الموت.
أما رجاء وبحضنها طفلها "إبراهيم" يرتجف، فقد كانت تبكي بحرقة من عجزها عن التحرك لإنقاذ زوجها، وبينما هي تنزف وأطفالها رأت الدبابة الثالثة مسرعة نحوهم، فصرخ "إبراهيم" رعبًا، صوتًا تهتز له الأرض وما عليها كما تصفه "حمدونة"، فتوسلت به أن يتصنع الموت، قالت له: "اعمل حالك ميت يما".
وحين اقتربت الدبابة أكثر، رفعت طفلها بيدها اليمين، ورفعت يدها الشمال حتى يراها الجنود أنهم مصابون، فكانت صدمتها أنهم لم يتراجعوا، تقول: "دهستني الدبابة وابني بحضني، لكن كانت رحمة ربنا كبيرة وقدر لي النجاة، أنا غطست برمل ناعم جدًا وكثيف أنا وابني، دعست ع رجليا لآخر ظهري ولفّت عنّي على جهة ثانية".
"وكيف إبراهيم بعد كل هذه الأهوال"، كان السؤال لأمه حين روت القصة، لتجيب بتنهيدة وصوتٍ ينخفض تارة ويرتجف تارة أخرى من بكائها: "إبراهيم يعاني من حالة نفسية صعبة جدًا بسبب الرعب الذي رآه وخوفه من أبيه وإخوته حين رآهم مضرجين بدمائهم".
"قرية البهجة"
أخضعت الأم إبراهيم لجلسات علاج نفسي، محاولةً تطهير ذاكرته من المشاهد التي رآها حين كانت الدبابة تقترب منه ومن أمه، ولكنها بلا جدوى، ما جعل "رجاء" تمسك بيديه وتحاول الذهاب معه إلى "قرية الأيتام" في مواصي خانيونس حين سمعت بافتتاحها.
على عتبات "قرية الوفاء للأيتام".. أطفالٌ تطأ أقدامهم مكانًا ملونًا، بعد أن بلغ اللون الرمادي في قلوبهم مبلغه من رماد البيوت ودخان الصواريخ قرابة العامين.. وبين جدرانها أطفال بقلوب خائفة، وذاكرة مثقلة بالوجع والفقد، وعقول لم تشفَ بعد من هول الصدمة والرعب!
ففي القرية ذات الجدران الملونة والتي امتلأت بالرسومات الطفولية، بدأ "إبراهيم" بالاندماج مع الأطفال الذين يحملون ذات الثقل والوجع بأشكال مختلفة، وبدأ يلهو وينسى قليلًا الأحداث التي جثمت على صدره.
قرية "الوفاء" التي يلتجئ إليها أيتام الحرب هي مبادرة افتتحت في مواصي خانيونس لتخفف عن الحالات المأساوية لأطفال نجوا من الموت المحقق، ولكنهم لم ينجوا من وجع فقد الأب والأم أو إحداهما ومن هول الأحداث حولهم، فكان لها أثر إيجابي يظهر على سلوكهم وشخصياتهم، هذا الأثر الذي تلحظه صاحبة المبادرة "د.وفاء أبو جلالة" الطبيبة المتخصصة في علاج النطق والسمع.
وحدها "وفاء" من تدرك ماذا يعني أن يفقد طفل أحد والديه، فلا يشعر بالأيتام هؤلاء إلا من عاش الشعور نفسه.. فهي اليتيمة التي اكتوت نار الوحدة والفقد، تقول للقدس 360: "هدفي من إنشاء القرية خلق ملاذ آمن للأيتام ودعمهم نفسيًا ودمجهم اجتماعيًا، فأردت أن يستعيد الأطفال بعضًا من ابتسامتهم ونشاطهم شيئًا فشيئًا، يلعبون ويتعلمون ويضحكون ويتعرفون على أصدقاء جدد وينسون ما حدث معهم لعزلهم عن ضغوط الحرب"، وتضيف: "تقدم القرية خدمات نفسية لمائتي طفل يتيم"
تحديات كثيرة واجهت د.أبو جلالة وطاقم القرية أثناء عملهم، تسترسل قائلة: "حجم الصدمات النفسية الكبير التي تركت أثرًا في سلوك الأطفال من أبرز التحديات، إضافة إلى ثقل التجارب المروعة التي واجهها الأطفال في القصف كالمكوث تحت الأنقاض ووداع العائلة كلها ورحيل الأصدقاء والإخوة".
"شريانُ أملٍ للأيتام"
كما لم تغفل القرية وطاقمها عن خصوصية الحالات النفسية لاختلاف الأحداث مع كل طفل، فتقدم لهم الدعم النفسي المتخصص، وتوفر مختصين للعمل على الحالات الصعبة ذات الاستجابة القليلة، تقول أبو جلالة: "خصصنا قسمًا للتأهيل اللغوي، حيث فقد كثير من الأطفال القدرة على التعبير والنطق السليم بسبب هول الصدمات، من أجل تمكين الأطفال الأيتام من استعادة توازنهم الداخلي، عبر علاج مشكلات النطق حتى لا تبقى معهم حالة التأتأة طوال الحياة".
وتأمل "أبو جلالة" أن يتم تبني المبادرة على نطاق أوسع، لا سيما أن الحرب أفرزت عددًا كبيرًا من الأيتام وصل إلى 35 ألف يتيم، عدا عن أنه في ظل استمرار الحرب والغلاء الفاحش الذي يسببه الحصار وإغلاق المعابر منذ شهور أصبح من الصعب استيعاب أطفال أكثر رغم الحاجة الملحة لكثير من الحالات خاصة "الناجي الوحيد" الذي لم يتبق له أحد من عائلته.
تضيف "أبو جلالة": "كل هذا يجعل الحاجة إلى التفاف ودعم دولي كبيرٍ، حتى يتم احتضان أكثر من مائتي يتيم في القرية، فقد كان كثير من الأطفال يبيعون العوجا والمعجنات على قارعة الطرق، إلى أن تم احتضانهم داخل القرية وانتقلوا من شعور أشبه بالجحيم إلى "جنة غزة" كما يصفها بعضهم".
وتختم حديثها: " القرية شريان أمل لحياة جديدة بعيدًا عن آلام الفقد، عبر إعادة تأهيل جيلٍ من الناجين جسديًا ونفسيًا، وتؤكد على أن القرية ليست فقط مكانًا للإيواء، كما تأمل أن يكون في كل منطقة من قطاع غزة مكانًا يحتضن عددًا من الأيتام وذلك بفتح فرع للقرية شمال قطاع غزة.
وعن أبرز التحديات التي تواجهها المؤسسات الدولية التي تكفل الأيتام قال أ.بسام الحاج مدير مشاريع مؤسسة المشرق التركية للقدس 360: "برامج الأيتام في السابق كانت برامج مساعِدة وداعمة تكفل اليتيم في حاجاته اليومية العادية المتعلقة بالطعام و الشراب و الدراسة، ولكن بعد حرب الإبادة تغيرت احتياجاتهم بفقدهم المأوى وكل أساسيات الحياة التي كانوا يمتلكون بعضها قبل الحرب"، حيث تغيرت الاحتياجات وتضاعفت بسبب انعدام شريان الحياة في قطاع غزة.
ومع ازدياد أعداد الأيتام ووصوله إلى أكثر من 35 ألف يتيم، وفقد جزء كبير منهم كلا الوالدين وانعدام المعيل، أصبحت برامج الكفالة العادية لا تكفي، لأنها كانت برامج داعمة وليست أساسية.
يأمل "الحاج" الذي ينفذ من خلال مؤسسة المشرق عددًا من البرامج لكفالة الأيتام منذ سنوات، أن تكون البرامج الحالية وبرامج ما بعد الحرب شاملة لكامل مستلزمات الحياة للأيتام، لا سيما توفير سكن لهم على شكل قرى أو مجمعات خاصة بهم، ويختم حديثه: "رغم زيادة عدد الكافلين إلا أننا سنبقى نحتاج للمزيد منهم لأن عدد الأطفال الأيتام في ازدياد، كما سيبقى عجز كبير بعدد الكافلين رغم كثرتهم"، كما يحرصون في مؤسسة "المشرق" سد جزء من هذا العجز عن طريق البرامج والمشاريع التسويقية، وتسليط الضوء من خلال زياراتهم للمؤسسات على هذا العجز في برامج كفالة الأيتام.
سعادة عارمة تختلج صدور الأطفال داخل قرية الوفاء بالخيام والأحواض والأرجوحات الملونة، برسوماتها الزاهية المبهجة وشبابيك الورود الذين يطلون منها الأيتام على حياة جديدة بعيدة بعض الشيء عن الألم!