أكبر شهداء الإبادة .. "عبد الفتاح أبو حسنة" الفدائي الأخير في بشيت
لربما كانت من الأقدار القاسية على قلب الحاج "عبدالفتاح أبو حسنة" أن ينزح في خيمة على شاطئ بحر غزة.. فللمرة الأولى يكون حديثه مع الأمواج مؤلمًا وهي تتناول ذاكرته الملأى بالحنين الموجع إلى شواطئ يافا التي كانت تجلي عن صدره الهموم، بينما تنقل قلبه وهي تتراقص يمنى ويسرى إلى قريته التي عاش عمره بأكمله تأكل قلبه الحسرة عليها!
حاورت منصة القدس 360 الشاب "محمد أبو حسنة" حفيد الفدائي الأخير في بشيت، صاحب آخر الرصاصات في البندقية، الرجل الأخير الذي قبَّل شاطئ بحر يافا، وأودع للأمواج سر العودة وهاجر لغزة.
الحنين إلى بشيت
هو البشيتي "عبدالفتاح أبو حسنة"، الذي بقي مفتاح بيته معلقًا برقبته يرافقه منذ 76 عامًا، بمثابة أمل كبير يعيش معه إلى أن يتحقق حلم العودة إلى قريته، والذي قتله المحتل فرحل شهيدًا حاملًا معه ذاكرة تضج بالألم على قريته التي عاش 76 عامًا ينتظر العودة إليها.. ليكون أكبر شهداء الإبادة عمرًا!
يحفظ محمد تفاصيل القرية جيدًا، فلم يكن جده يضيع جلسة إلا وحدثهم عنها، يقول: "بشيت تقع على الساحل قضاء الرملة؛ شمالها قرية يبنا، وشرقها قرية قطرة، وجنوبها قرية المسمية، ولها سور، عدد سكانها لا يتعدى الألفين، اعتمد جميعهم على زراعة الذرة والشعير والسمسم وأشجار الزيتون والكروم".
حكمة مختار قرية بشيت كانت أكثر القصص التي رسخت في ذاكرة "محمد"، فقد كان جده يرويها بفخر كبير، يكمل:" مختار بشيت الذي تصدى لمحاولات الانتداب البريطاني في التحايل على ملاّك الأرض حين أخفى حدود الأراضي الموثقة، ودعا المزارعين إلى فلاحة الأرض على المشاع حتى لا يعرفون حدود القرية".
بحنين بادٍ على صوته يقول "محمد" عن جده: "كان يبهرنا باللغة البولونية التي تعلمها خلال عمله مع المهاجرين الذين قدموا إلى فلسطين من بولونيا بعد الحرب العالمية الثانية"، ويسهب في التفاصيل التي تخص جده: "كان يحفظ من الشعر الكثير، وأكثر ما كان يدندن به حين يشتد الحنين بقلبه أبياتًا من شعر أبو فراس الحمداني: "بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي من فك أسـرك أن يحل وثاقي".
وعن بسالة جده يروي "محمد" لمنصة القدس 360: " كان جدي يبلغ 26 عامًا عام النكبة، يمتلك سلاحًا ألمانيًا ولكنه لا يستطيع شراء رصاصاته لغلاء سعرها، فقد كان يشتري الطلقة الإنجليزية ويعدلها ليستعملها في البارودة الألمانية، وأيضًا في بشيت كان يوجد وقتها مدفع يضرب25 طلقة متتالية اشتراه أهل القرية ونصبوه على مدخلها".
شاهد على النكبة والإبادة!
إلى غزة هجر الحاج "أبو حسنة" لاجئًا.. كان يؤمل في يوم العودة.. وحتى يعود إليها، قرر أن يفعل كل ما يذكره ببشيت، يقول "محمد": "منذ سبعين عامًا عاد جدي إلى تربية النحل بين أشجار الزيتون والكروم.. يقضي نهاره متنقلًا بين صناديق النحل، فقد آمن أن النحل يمنح الرزق من الطبيعة".
فقد أخبرهم جده أن كل شيء في بشيت كان مبهجًا بدءًا من تربية النحل الذي يطير من بساتين القرية وزهورها، إلى طقوس وضع العسل عند القطاف في قوارير الفخار، ثم يأتي التجار من مدن اللّد والرملة ويشترونه فيسحبونه من القوارير ويأخذون أقراص الشمع.
لم يكن في مخيلة الحاج البشيتي أن تعاد النكبة أمام عينيه، وأن يهجروا من بيوتهم قسرًا ويقفوا في طوابير الشقاء مرة أخرى، يختم محمد حديثه: "مع بدء حرب الإبادة على غزة، زارت مشاهد نكبة 1948م ذاكرة جدي، وكان يردد عشت نكبتين، وكان يشيد بالمقاومة ويتذكر يوم أن نفدت رصاصات بندقيته واضطر للخروج من بشيت".
قتل المحتل "أبو حسنة" وأبناءه الثمانية باستهداف مكان نزوحهم بالصواريخ، رحل وهو يعلق مفتاح العودة برقبته، ويلف رأسه بكوفية قاتل بها في بشيت.. قتلوا معه أبناءه حتى لا يبقى راوٍ يكمل الحكاية لمن بعده، وكي يموت اسم بشيت في قلوب من خلفه، لكنه لم يدرك أنه رحل تاركًا وراءه أحفادًا يدركون أن عمر جدهم أكبر من عمر الاحتلال وأنهم حفظوا سر البحر حين همس له جدهم "سنعود".