"سنديانة جنين" ترحل دون وداع!
تختلف هدايا الأمهات في فلسطين! تعلم هي ذلك.. فقد يكون لقاء الحرية المفاجئ قبل الموعد المحدد للإفراج، كما من المحتمل أن يكون قرار إنهاء الإبعاد عن المسجد الأقصى.. فكان التساؤل طوال الليل في قلب "سنديانة جنين: "ماذا سيهديني حبيبي حمزة في يوم الأم"؟!
على سرير المشفى عام 2015م كانت ترقد "أسماء أبو الهيجا"، تعاني من مرض السرطان في الشهور الأولى لإصابتها به.. حين هاتفها ابنها حمزة منتصف مارس ليخبرها أنه جهز لها هدية الأم ويطلب منها مسامحته لعدم قدرته على المجيء للاطمئنان عليها!
كان مطاردًا منذ عامين كاملين.. تنتظر أمه "دقة الباب" لتقبله وبارودته وتغني له: "يا يما في دقة ع بابنا.. يا يما هي دقة أحبابنا.. يا يما في دقة قوية، يا يما دقة فدائية.. يا يما هذولا الغوالي، يا يما طلاب المعالي"، لكن دقة باب قلبها كانت مؤلمة هذه المرة.. حين طُرق بخبر استشهاده فكان هدية لكل أمهات جنين في شهر آذار اللواتي ثأر لأبنائهن "حمزة أبو الهيجا" وارتقى شهيدًا بعد أن أثخن في صفوف العدو.
أسماء أبو الهيجا.. "أم النضال الفلسطيني"، هكذا يلقبها الجميع في مخيم جنين والتي يعدها أهله "سنديانته"، تروي فصول نضالها وجهادها "لمنصة القدس "360" ابنتها "ساجدة".. الوحيدة التي استطاعت توديعها حين رحلت يوم أول أمس.. لأن العائلة بأكملها تقبع خلف قضبان الزنازين.
مشوار نضالي ممتد
هي زوجة الأسير القائد "جمال أبو الهيجا" الذي أسره المحتل الغاشم عام 2002م إبان اجتياح المخيم وارتكاب مجازر وحشية فيه، وما يزال حتى الآن قابعًا في سجن النقب الصحراوي، يعاني من ظروف قاسية داخل زنازين رطبة لا تصلح للعيش الآدمي، وذلك بتهمة الإعداد لعملية "صفد" الفدائية داخل الخط الأخضر التي قُتل فيها تسعة إسرائيليين وجرح العشرات، فحُكم عليه بالسجن المؤبد تسع مرات وعشرين سنة إضافية.
عاد إلى أرض الوطن عام 1990م، واعتقل أربع مرات منذ عودته، وأمضى ما مجموعه خمس سنوات ونصف في سجون الاحتلال قبل اعتقاله الأخير، حيث صنفه الاحتلال بالأسير الخطير، واستخدم بحقه كل أشكال التعذيب على مدار شهرين كاملين، ثم نقله إلى العزل الانفرادي وقضى فيه نحو 10 سنوات، وأخرجه منه بعد إضراب الكرامة الذي خاضه الأسرى عام 2012م.
توالت الاعتقالات بعد أسره على عائلة "أبو الهيجا"، فاعتقلهم المحتل ذكورًا وإناثًا ابتزازًا لوالدهم المجاهد، كان أقساها اعتقال "أسماء أبو الهيجا" التي كانت الأم والأب بعد تغييب زوجها، ومكثت في زنازين السجون تسعة شهور تعرضت خلالها لصنوف العذاب بأشكاله كافة!
لم تكتف قوات الاحتلال الصهيونية بتغييب سند "أسماء" في غياهب السجون، بل أراد أن يفقدها المكان الآمن الذي تضم فيه أبناءها بعد غياب والدهم، فقصفوا منزلهم وسط مخيم جنين بصواريخ مدمرة فأصبح أثرًا بعد عين، وبعد فترة وجيزة داهموا البيت وحرقوا أنقاضه، فسكن الحزن قلب "أسماء" وأطفالها.
ورغم كل القهر الذي استقر في نفس "أبو الهيجا" بسبب حرق بيتها، إلا أنها استجمعت قواها لأجل أطفالها وثابرت في مشوار كفاحٍ طويل وأعادت بناء البيت، فكانت كالعنقاء التي تخرج من بين الرماد.. ولكن جدران البيت هذه المرة كانت مختلفة!
صور ملأت الجدران... تروي حكاية نضال وكفاح لا يستثني أحدًا من العائلة... الصورة الأولى للأب من داخل السجن، صور ابنها الشهيد الذي ثأر لأبناء مخيم جنين وطورد لأجلهم.. صور الأبناء عاصم وعماد وعبدالسلام الذين قبعوا في الزنازين عشرات السنين، اللقاء الأول للأب والابن في أحد السجون ذات اعتقال، صور مدبلجة عبر البرامج الحديثة لتجمع فتاة مع أبيها الذي اعتقل وهي في لفافة الولادة فلم تحظ بلقائه ولا لمرة واحدة!
بطش المحتل حتى النفَس الأخير
وسط كل صنوف العذاب هذه تقول ساجدة: "مع كل انتهاك للاحتلال بحق عائلتنا يتسلل الحزن والكمد إلى قلب أمي ويزيد مرضها ومعاناتها من السرطان فيتراجع وضعها الصحي"، كان آخر هذه الانتهاكات أنها قضت الأيام الأخيرة في حياتها دون أحد، فابنتها "بنان" التي كانت ترافقها في المستشفى اعتقلها جيش الاحتلال على الحاجز وهي ذاهبة إليها.
وعن آخر أيامها تقول "ساجدة" للقدس ٣٦٠: "اشتد المرض على أمي، وكانت تصحو تنادي على أختي بنان وإخوتي وأبي ثم تبكي وتغفو مرة ثانية، فقد حرمها المحتل من توديع أبنائها وزوجها، لتكمل ثلاثين عامًا من الجهاد والألم والوجع".
وكما بدأت "أسماء أبو الهيجا" أيام مرضها الأولى بانتظار دقة الباب من ابنها المطارد "حمزة"، فقد رحلت أيضًا بعد عشرين عامًا وهي تنتظر دقة الباب من أبنائها الأسرى الذين توزعوا في سجون المحتل، فارتقت ودُفنت في مخيم جنين دون وداع!