تقارير

سُمي أسطول الحرية باسمها.. من هي "مادلين"؟

ستُّ سنوات من عمرها كانت كافية لأن تتعلق "مادلين" بالصيد شغفًا.. فكانت ترافق والدها إلى البحر لتحترف المهنة، تلك المهنة الأصعب عند الفتيات والأكثر إثارة عند الشابة الغزية "مادلين".

مرت السنون وأصبحت "مادلين" أول صيادة فلسطينية تحترف المهنة، تعاني ما يقاسيه الصيادون في بحر غزة الذي يمتلئ بأوجاع الناس برفقة رفيق دربها شقيقها "كريم" الذي ترك الدراسة رغم تفوقه وبدأ يتعلم المهنة أيضًا واحترفها.

رحلاتُ صيد باهتة

عبر قارب صغير بمولد كهربائي كانت "مادلين" تمخر عباب البحر، تبحث عن قوت عائلتها برفقة "كريم" بعد أن ألمَّ بوالدها المرض فأقعده في البيت... اشترته بديلًا لها عن قارب التجديف الذي كانت تملكه سابقًا، فلم يكن يسمح لها بالابتعاد كثيرًا عن الشاطئ.

صوت البحر كان يتمازج مع صوتها وكريم مع ساعات الفجر الأولى حين يرددون الأهازيج الشعبية التي اعتاد الصيادون أن يترنمون بها كي يؤنسون قلوبهم بها أثناء الصيد فتنشد: "هيي سهل علينا يا رب، هيي الله يرزقنا يارب، هيي كرمك يارب، هيي صل على النبي"، فيرد "كريم" مبتسمًا: "يارب ارزقنا يارب"، أما حين يكرمهم البحر وتمتلئ شباكهم فكانوا ينشدون فرِحين متغزلين بما اصطادوه: "طلع الصبح صبح ياعليم، والعدة فيها سردين، هيلا هيلا يا صياد، هيلا هالله صل عالنبي"، بينما كان ينشد كريم حين يشح الصيد مواسيًا لشقيقته مادلين: "الله الرازق يا شباب، هيلا هيلا يا صياد، الخير في الخيط اللي جاي".

رصاصات الاحتلال الإسرائيلي كانت تمر من جانب سفينة "كريم ومادلين"، غير أن رصاصة أخرى على البر استقرت في صدر "كريم" فأردته شهيدًا حين شارك في مسيرات العودة على حدود غزة، مع آلاف المشاركين الذين كانت ترنو عيونهم إلى القرى والمدن ما بعد الحدود.

اعتقال للصيادين، وقتل آخرين، تصدير للسفن والمعدات وتدميرها أحيانًا أخرى، ومنع من الإبحار عميقًا على مسافات بعيدة حيث الرزق الثمين هناك.. بعض ما كانت تراه "مادلين" من وحشية الآلة العنجهية الصهيونية بحق الصيادين الفلسطينيين.

ارتقى شقيقها "كريم" وأصبحت رحلات الصيد باهتة في عيون "مادلين"، فلم تعد تعرف كيف ستمر على أماكن في البحر دون أن تضحك مع رفيقها "كريم" أو كيف ستبكي وحدها حين تمر ذكرى مؤلمة لهما معًا.

حاورت منصة القدس 360 الصيادة الفلسطينية "مادلين كلاب" بعد أن أبحر أسطول شارك فيه شخصيات حقوقية وإعلامية وتضامنية من كل دول العالم نحو غزة لمحاولة كسر الحصار عنها، حيث أسموا السفينة باسمها تقديرًا لها: "رحل أبي بداية الحرب، وزادت رقعة الفقد في قلبي، بعد أن بت وحيدة دون كريم ووالدي، رفيقاي في البحر، لكنني بقيت مستمرة في مشواري وعهدي مع أبي والبحر".

وتكمل حديثها: "لطالما ردد "كريم" في مخيم العودة الذي أطلق عليه اسم "ملكة" ترانيم العودة وحلم بما وراء السياج الحدودي الذي يعربد الجنود عنده"، فقد كان يحلم ببحر يافا وحيفا، ويتخيل كيف لو أنه أتيح له بالصيد هناك، بعيدًا عن الكيلومترات المحددة التي إذا ما تجاوزوها فإن رصاصات الاحتلال ستكون رادعهم.

في جمعة الغضب الحادي والعشرين من سبتمبر عام 2018م، كان يقف "كريم" مع المتظاهرين في مسيرات العودة، فقد كان أمله أن يُكسر الحصار عن غزة ويعود ذلك بالنفع على عائلته وعوائل الصيادين حين ينتهي الخناق عليهم بتحديد مسافات الصيد القليلة وحرمانهم من الإبحار في بحرهم بحرية.. إلا أن رصاصة جندي غادرة كانت أسرع من حلمه فارتقى شهيدًا.

محطات كثيرة مؤلمة مرت بحياة الشابة "مادلين"، أما الضربة الموجعة لها فكانت عام 2016م تروي لمنصة القدس 360: "صادرت قوات الاحتلال قارب والدي ومعداته، ولكنني صممت على الاستمرار، فاستأجرت محركًا، وأعدت تشغيل القارب، مواصلةً طريقي بصمود وتحدٍ".

المحطة الأقسى بدأت منذ اليوم الأول في حرب الإبادة على غزة، فقد أصبحت "مادلين" ترى أن رحلات الصيد مجازفة يومية، ولقمة مغمسة بالدم، تقول: "نصطاد بخوف شديد وتهديدات ومخاطر، فمنذ بدء الإبادة تلاحقنا الزوارق الحربية في البحر، وتستهدف مركبات الصيادين ومعداتهم وشباكهم، وتطلق علينا النار دون سابق إنذار"، فأكثر من 250 صيادًا فلسطينيًا استشهد في غزة، كما دمر المحتل 270 غرفة للصيادين، وأكثر من 1800 مركب عدا عن تدمير ميناء غزة الرئيس ومخازن الصيادين المنتشرة على طول ساحل غزة.

لم ترد "مادلين" أن يقف المشوار عندها، فأحبت أن تنقل شغفها لنساء أخريات، فنظّمت ورشات لتعليم الصيد وصناعة الشباك، وأسست ناديًا نسائيًا لدعم زوجات الصيادين والعاملات في البحر، وتضيف: "مرت السنون وعدت إلى الصيد وبقيت أواجه ظلم المحتل الغاشم الذي يقف بعيدًا يراقب الصيادين.. كي ينغص عليهم لقمة عيشهم.. فيقتلهم ويغمس لقمة عائلاتهم بالدماء.

مسيرة تستحق التقدير

وفي خطوة تقديرية لمادلين حملت إحدى سفن "كسر الحصار" اسمها، في رسالة من المشاركين على متنها أنهم يقدرون جهود "مادلين" التي زارت البحر طفلة حين رافقت والدها بعمر الست سنوات تتعلم منه سر الشباك وقيادة القواري بكل أنواعها، وأصبحت مع مرور السنين معيلة لعائلتها ورمزًا للمقاومة والتحدي.

سفينة "مادلين" الشراعية قادت أسطول الحرية وهو أسطول بحري وبعثة إنسانية دولية نظمت من طرف تحالف أسطول الحرية؛ بهدف كسر الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على قطاع غزة منذ بدء حرب الإبادة، وإيصال المساعدات الإنسانية وتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة.

تحالف "أسطول الحرية" اختار إطلاق اسمها على إحدى سفنه، لتُصبح "سفينة مادلين" رمزًا للمرأة الفلسطينية المكافحة، وللمقاومة التي تتحدى الحصار بالقوارب اعترافًا منهم بشجاعة "مادلين" بأنها منصة للنضال منذ أن كانت طفلة تخوض رحلات الصيد كمعارك يومية من أجل لقمة العيش!

كيف عرفت مادلين بالسفينة؟! كان سؤالنا لها فأجابت: "علمت منها من صديقتي الناشطة في إيرلندا، وأخبرتني أن الهدف من الرحلة إيصال المساعدات إلى قطاع غزة، تأثر الناشطون بقصتي وكفاحي فقرروا تكريمي بذلك، وأنا الآن على تواصل مع المتضامنين على متن السفينة".

انطلاق السفينة كان في الأول من يونيو من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية بالبحر المتوسط بمشاركة حقوقيين دوليين، متوجهة إلى قطاع غزة، وعلى متنها مساعدات إنسانية تشمل حليب الأطفال والدقيق والأرز والحفاظات والمستلزمات الطبية ومعدات تحلية المياه وأطراف صناعية للأطفال، وجاء انطلاقها بعد شهر واحد من قصف الطائرات المسيرة الإسرائيلية "سفينة الضمير العالمي" قبالة سواحل مالطا.

على شاطئ بحر غزة حيث كانت تجهز "مادلين" شباك الصيد لتنطلق فجرًا إلى رحلة الصيد وتعود بقوت عائلتها.. وقفت "مادلين" تنتظر الأسطول حتى يصل، لتتفاجأ باتصال أحد الناشطين على متنه ليخبرها أن قوات الاحتلال الإسرائيلي منعتهم من الوصول فحاصرتهم ورحلت بعضهم واعتقلت آخرين، فقد تعرضت سفينة «مادلين» للقرصنة والاختطاف في المياه الدولية وصعدت عليها بعد نشر مُسيرات وتشويش الاتصالات، وقد كانت على بُعد نحو 100 ميل بحري أي قرابة 185 كيلومترًا من ساحل غزة.

ستبقى "مادلين" تمثل قوة ناعمة تقاوم محتلًا غاشمًا لتثبت للعالم أن غزة لا تحتاج قوة خارقة، بل انتماء حقيقيًا وقلوبًا تؤمن بكل شبر من أرضها وبحرها.. كما سيبقى اسمها درسًا للعالم عنوانه "كيف يكون الصيد مقاومة"، فلم ترسُ السفينة على ضفة غزة الموجوعة ولم يُفك الحصار، لكنها رست في قلب "مادلين" وصنعوا بداخله شراعَ أمل لحلم سيتحقق يومًا ما!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى