Blog

حكايةُ الباب الذي لا يغلق في "القدس"

تحفظ القدس أسماء أبنائها الأوفياء جيدًا، لا يطويهم النسيان، ولا يمحوهم التهويد، فهم محفورون في حجارتها العتيقة ومرسومون على جدرانها بدمهم .. في أزقتها يمشي الأبطال نحو الخلود، وعلى حجارتها تُسطَّر أسماء الشهداء بالعربية المطلقة، كأنها عهد أبدي أن المدينة لا تُسلَّم لغير أهلها.

عند عتبات باب السلسلة، في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 2021م، خطَّ أحد هؤلاء الأبطال سطرًا جديدًا في تاريخ القدس الخالد، هناك، حيث يقف الباب شاهدًا على كل الغزاة والمقاومين، سار المعلّم المقدسي، ابن مخيم شعفاط، فادي أبو شخيدم، بخطوات العارف أن الدرس الأخير له يجب أن يكون بالرصاص.. استل بندقيته، واشتبك مع جنود الاحتلال الذين كانوا يعربدون عند بوابة الأقصى، فسقط أحدهم قتيلًا وجُرح ثلاثة آخرون، قبل أن يعانق الأرض التي أحبها، مضرجًا بدمه الطاهر...

ذلك الدم الذي سال على حجارة باب السلسلة لم يكن مجرد دم شهيد، بل رسالة حاسمة: أن القدس لا تخضع، وأن الأقصى لا يُصان إلا بدماء الأحرار. وهكذا بقيت وصيته لأبنائه وطلابه ولأهل القدس جميعًا تتردد كنبراس: "البوصلة هي الأقصى، والطريق إلى الحرية مرسوم بالتضحيات"، وظل باب السلسلة شاهدًا، ليس فقط على جريمة الاحتلال، بل على حب أهل القدس لها، وإصرارهم أن يورثوا دمهم للأقصى كما يورثون أبناءهم.

 

 الباب الذي لايغلق

مؤذّن المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة على مدار خمسةٍ وخمسين عامًا، الشيخ عبدالكريم زوربا، أخذنا في جولة عبر منصة القدس 360، متوقفًا عند باب السلسلة، ذلك الباب الذي يتربع بين المدرسة الأشرفية شمالًا والمدرسة التنكرية جنوبًا، استهل حديثه بنبرة العارف بتفاصيل المكان قائلًا: "يتميز باب السلسلة بنقوشه المعمارية البديعة، وقد صيغت زخارفه من الجبص الملوّن، لتضفي عليه رونقًا خاصًا وبهاءً يميّزه عن سائر الأبواب".

ويتابع الشيخ زوربا حديثه قائلاً: "جُدِّد باب السلسلة في العهد الأيوبي عام 1200م، وهو يتكوّن من مدخلين: الشمالي ويُعرف بباب السكينة، والجنوبي وهو باب السلسلة القائم حتى اليوم، بمدخله المستطيل الذي ظل شاهدًا على عصور متعاقبة من التاريخ".

ثم خفت صوته وهو يضيف بحزن: "هذا الباب، الذي كان يومًا معبرًا للعلماء والطلاب والمرابطين، تحوّل في العقود الأخيرة إلى مسرح للانتهاكات، فالمستوطنون يخرجون منه بعد اقتحام المسجد الأقصى، ويؤدون على عتباته طقوسًا تلمودية علنية، ويرفعون أصواتهم بالصلوات، ويتمايلون في رقصات استفزازية، ويمارسون ما يسمونه بالسجود الملحمي، في مشهد يمس قدسية المكان ويُثقل قلب كل مقدسي".

 ملاذ المبعدين

وتحديًا لانتهاكات الاحتلال وإجراءاته التعسفية بحق المرابطين والمصلين في ساحات المسجد الأقصى، يصطفّ المبعدون عن المسجد على عتبات باب السلسلة، يحولون المكان إلى ساحة رباط. يقول الشيخ زوربا: "هناك، أمام هذا الباب العريق، يتحدّون الاحتلال بالصلاة وبتلاوة القرآن الكريم، غير عابئين ببطش الجنود وعمليات القمع والتنكيل، خصوصًا في مواسم الأعياد اليهودية حين يشتد التضييق".

ويتابع: "لا يكتفون بالوقوف صامتين، بل يتصدّون باهتافاتهم وتكبيراتهم العالية لاقتحامات المستوطنين، حتى يعلو صوت الحق على ضجيج الطقوس والأغاني التي يحاولون فرضها...وفي كل تكبيرة، يفضحون قهر الإبعاد، ويثبتون أن صوتهم — وإن حُرم من الدخول إلى الأقصى — يبقى حاضرًا عند بواباته".

يمتلك باب السلسلة مكانة تاريخية وروحية، فهو ليس مجرد مدخل من مداخل المسجد الأقصى، بل أيقونة معمارية تُعدّ من أجمل أبوابه وأبهى واجهاته، يطل على حائط البراق، ويُشكّل الممر الوحيد الذي يربط الأقصى بباب الخليل وقلعة القدس التاريخية.

ويُكمل الشيخ زوربا حديثه قائلاً: "من باب السلسلة تنفتح الطرق المؤدية إلى أهم حارات القدس القديمة، وفي محيطه تتوزع معالم شاهدة على عصور مضت؛ من بينها سبيل السلطان سليمان القانوني، والمدرسة التنكزية، والمكتبة الخالدية، والمحكمة المملوكية، إلى جانب كثير من المدارس والأسبلة التي شكّلت معًا لوحة متكاملة من الإرث الحضاري للقدس".

لم يكن باب السلسلة مجرد مدخل من مداخل المسجد الأقصى، بل غدا ملاذًا حقيقيًا وحصنًا أخيرًا للمبعدين عنه، والنقطة الأقرب إلى ساحاته التي حُرموا من خطاها.

على عتباته ترتفع الصلوات وتتردّد التكبيرات، وفي ظلاله يعلنون رفضهم لسياسة الإبعاد التي تُقصيهم عن محرابهم، بينما يبقى الباب شاهدًا حيًا على صمودهم ورباطهم، وحارسًا للقدس في وجه محاولات تهويدها وطمس هويتها التاريخية.

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى