تقارير

غزةُ تسأل على لسان صغارها: "متى يموتُ الجوع؟"

وإذا سُئلت عن قهر الرجال، فقل: هو مقيمٌ في صدور آباء غزة!
قهر الأب الذي رافق طفله ليحصل على كيس طحين يسدّ به جوعه، فاخترقت رصاصة قناص صدر الولد قبل أن تسعفه كسرة خبز، وارتقى شهيدًا بين يديه!
قهر الأب الذي ودّع صغيره هامسًا: "سامحني، رحلتُ دون أن أُطعمك.. منذ خمسة أيام لم تأكل!" قهره أيضًا وهو يكتم دمعه عن أطفاله، يتوارى عنهم حتى لا يُرى ضعفه أمام بكائهم في جوعى!
وأمام تكيات الطعام، تفيض أعين الأطفال بالدموع، بينما القدور تفرغ ولا تكفي، فتُملأ قلوبهم الصغيرة قهرًا، وتظلّ أمعاؤهم خاوية إلا من الألم!

وفي قلب المجاعة التي تنهش أطفال غزة ونسائها ورجالها، وثّقت منصة القدس 360 بعض المشاهد اليومية للوجع المتغلغل في أزقة غزة، حيث أحكم الاحتلال الخناق وضاق الأمل.

صحفي هدَّه الجوع

"كنتُ أكتب عن الجوعى، والآن أصبحتُ أحدهم، أعود إلى بيتي خالي اليدين، وأتحاشى نظرات عائلتي التي تسألني بلا كلمات"، هكذا كتب الصحفي يحيى العوضية، مُذيلًا كلماته بتوقيعٍ موجع: "الصحفي الذي أكله الجوع!"
العوضية، الذي لم يغب عن المشهد منذ اليوم الأول لحرب الإبادة في غزة، لم يكتفِ بنقل الخبر بل صار هو جزءًا منه؛ أوجعه أن يبيع هاتفه، ذاك الذي كان يلتقط به الحقيقة، وأن يفرّط بدراجته النارية، وسيلة تنقّله بين ركام البيوت ومشاهد الألم.
وفي يوم من أيام التجويع نشر صورة دراجته على مواقع التواصل، وكتب بقهر: "هذه دراجتي.. اشتريتها بعد سنين من الشقاء، من يبادلني بها كيس طحين؟"

 

أجسادٌ جفَّت

في شوارع غزة التي أنهكتها الحرب، لم يعد السقوط يعني الإصابة بصاروخ أو شظايا، بل أصبح يعني أن الجسد قد جفَّ من كل شيء.. من الماء، والغذاء، والحياة.
هُناك في المدينة المجوعة، الأجساد لا تُقصف فحسب، بل تنهار تحت وطأة العجز والتجويع، فالمشهد يتكرر كل يوم: كبار سن يتهاوَون أرضًا قبل أن يصلهم دورهم أمام تكيات الطعام.
أطفال يُغمى عليهم في طوابير الذلّ، يحملون قدورًا فارغة وعيونًا مليئة بالرجاء.
ونساء يسقطن في الأزقة، وهنّ يجُبن الشوارع بحثًا عن رغيف واحد، لأطفال قضوا ليلتهم باكين من الجوع.
أمس..كتب الصحفي محمد قريقع، موثقًا أحد المشاهد:
"أسقط الجوع قبل قليل طفلًا في محيط مستشفى الشفاء. شقيقه يصرخ باكيًا: (قوم يخو أمانة، هات إيديك.. يمكن نلاقي حاجة نوكلها). الطفل لا ينهض. يحاول شقيقه رش الماء على وجهه، لكن أيوب لم يفق..."

مات أيوب
لم ينتظر الجوع أن يكتمل لقاء طفل بأبيه المغيّب في سجون الاحتلال.
وُلد أيوب في زمن التجويع، وسمّته أمّه تيمُّنًا بصبر النبي، علّه يتحمّل قسوة الأيام، لكن الموت كان أسرع من الصبر.
كانت أمّه "منال محمود" تهدهده كل ليلة بوعود الطعام وعودة والده، تقول لمنصة القدس 360:
"من يوم ولادة أيوب وأنا أبحث عن كأس حليب.. ينتهي النهار ويأتي الليل، يبكي حتى ينام."
وفي ليلة بكى فيها أكثر من كل ليلة.. بكى حتى هدأ صوته إلى الأبد.

 

وضعٌ كارثي
في مرحلة إنسانية هي الأقسى، أكّد برنامج الأغذية العالمي أن نحو 90 ألف طفل وامرأة في غزة يعانون من سوء تغذية حاد.
ومنذ أواخر مايو، قُتل أكثر من 800 شخص أثناء انتظارهم تسلُّم المساعدات، وأُصيب أكثر من 6,000، في مناطق صار أهل غزة يسمّونها "مصائد الموت" بدلًا من "نقاط الإغاثة".
ووسط الكارثة هذه، لا يسأل الأطفال عن الطعام فقط، بل يسألون أمهاتهم سؤالًا لا إجابة له:
"متى يموت الجوع؟"

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى