Blog

أطفال غزة.. أسئلة تحاصرها الصواريخ!

كان صباحًا مفجعًا لقلبه، اقتربت منه طفلته التي بترت يدها ذات حقد صهيوني على بيوت المخيم، بعينين دامعتين وقلب مثقل يحمل ثقلًا لا يناسب عمرها الغض.. سألته ابنة الستة أعوام: "متى ستنبت يدي من جديد يا بابا؟"!

سقط السؤال على قلبه كسهم نافذ، وأعادت نكء الجرح من جديد، ذبلت عيناه، لا شيء فتك بروحه منذ بداية الحرب بقدر سؤالها هذا.. فكيف سيفهمها أن الحرب سرقت منها شيئًا لا يرد؟!

منصة القدس 360 حاورت الأب المكلوم آدم المدهون، الذي عاد في مستهل حديثه إلى فصول المحرقة التي يواصلها الاحتلال الغاشم بحق أطفال غزة منذ ما يقارب العامين.. يقول المدهون: "انتشلنا كنزي من تحت ركام المنزل، بعدما استهدف الاحتلال البيت الملاصق لمكان نزوحنا في دير البلح وسط القطاع، كانت إصابتها بالغة، فيما كان ذلك النزوح الثالث لنا بعد أن تركنا مخيم جباليا، ثم انتقلنا إلى مخيم النصيرات، وصولًا إلى دير البلح... لكن حتى هناك لم يتركنا الاحتلال، فلحق بنا بالقصف، واستشهد عدد كبير من أفراد العائلة".

في حديقة المنزل كانت "كنزي" تلهو بخفة، تركض وتضحك كفراشةٍ تلاحق خيوط النور.. في عالمها الطفولي البريء، كانت تظن أن الصواريخ لا تقترب من الأطفال، وأن الموت لا يعرف طريقه إلى الألعاب، لم تعرف الحقيقة إلا حين انهالت صواريخ الاحتلال على البيت الملاصق للحديقة... دوّى الانفجار المروّع، وكان آخر ما وصل إلى سمع كنزي صوت ارتطامٍ مهول مزّق سكون لعبتها، قبل أن تغيب عن الوعي في عتمةٍ طويلة.

في سيارة الإسعاف التي حملت "كنزي" من تحت الركام، تلقّى والدها "آدم المدهون" الخبر الأكثر فتكًا: "ابنتك استشهدت على الفور"، انقبض قلبه وانكسر، وسار إلى المستشفى مثقلاً ..لكن المفاجأة أن أحد الأطباء أخبره أنهم نجحوا في إنقاذ حياتها، لكن إصابتها بالغة، وبُترت يدها اليمنى.

يقول آدم بصوتٍ يملؤه الألم: "لم تقف معاناتها عند هذا الحد؛ فقد عانت من كسرٍ في الجمجمة والحوض، وخضعت منذ إصابتها لعشرات العمليات الجراحية، إلى أن تمكّنت بعد صراع طويل من السفر لتلقي العلاج في مصر وتركيا".

الألعاب التي تحتاج إلى ساقين توجع قلب الطفلة "كنزي"، تتحسس على يدها، تبكي، ثم يعود الأمل ينبت في قلبها وتصفع قلب أبيها بسؤالها المفجع: "ستنبت يدي من جديد.. صح يا بابا؟!

أسئلة كثيرة تحاصر طفولة غزة، أسئلة تخرج من بين الركام والجوع والصواريخ والخوف. في ليلة مثقلة بالفقد والرعب، التفت الطفل إسماعيل الزبدة، ذو الأعوام الخمسة، إلى أمه التي فقدت زوجها في حربٍ سابقة قبل أربع سنوات، وسألها بصوتٍ يخترق الصمت: "ماما.. صح أنا حأدخل الجنة عشان صبرت على استشهاد بابا؟"

تلجمت الأم وارتجف قلبها وهي تحاول أن تتأكد: هل طفلها يعي حقًا ما يقول؟! كان إدراكها موجعًا؛ أن سؤالًا كهذا لا يليق بعمرٍ صغير، لكنه ثِقَل الحرب!

وذات حصار مطبق.. باغتت الطفلة "ندى حمادة" أمها في ليلة من ليالي الجوع القاتل بسؤالٍ بريء حدّ الوجع: "ماما.. حنأكل بيتزا بالجنة؟" لترحل ندى شهيدة بعد أيام، وسط الجوع والرعب، محتضنة دميتها الممزقة تحت الركام، تاركة جواب سؤالها معلقًا في قلب أمها المكلومة إلى الأبد.

أسئلة الصغار في غزة، تلك التي كان يفترض أن تدور حول اللعب والبحر والسماء والمدرسة، تحوّلت اليوم إلى سهامٍ مسمومة تخترق صدور الأمهات والآباء.. أسئلة بريئة تُعجز الكبار عن الجواب، وتعيد فتح جراح الحرب في كل مرة.. فما بين الركام والرماد المتناثر بعد كل مجزرة، تظل الإجابات مفقودة، ويظل السؤال الطفولي شاهدًا على عجز العالم وقسوة الاحتلال.

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى