الصباح الأول بعد الحرية.. "مناصرة" يعانق "أمه" وعصافيره!
عاد أحمد! من غياهب العتمات التي عاش بها عشر سنوات منعزلًا وحده، رجع طفل القدس من ظلام الزنزانة التي سرقت طفولته، ومن خلف قضبانٍ التهمت أجمل سنوات عمره، رجلًا بعمر الثالثة والعشرين!
كان من المفترض أن يتجهز "أحمد" هذا العام ليجلس على منصة التخرج ويعلن نجاحه ويهديه لوالديه، وينهي دراسته الجامعية في تخصص الهندسة كما يطمح! لكن الاحتلال حكم عليه أن يعيش أقسى سنوات عمره، حيث اعتقله عام 2015م بطريقة وحشية، وكان يبلغ من العمر 13 عامًا، بتهمة محاولته تنفيذ عملية طعن في القدس المحتلّة.
هو ابن القدس المحتلة الأسير الطفل "أحمد مناصرة"، الذي أطلق جنود الاحتلال عليه النار عام 2015م وعلى ابن عمه "حسن"، ما أدى إلى استشهاده، أما أحمد فقد تعرّض للدهس والضرب المبرح، فأصيب بكسور في الجمجمة.
شريط طويل مر يوم أمس على ذاكرة والدة الأسير "مناصرة" وهي تنتظر عودة "طفلها" على باب السجن، منذ اليوم الأول لاعتقاله حين تركوه ينزف على الأرض وهو يستنجد لإنقاذه، بينما يحاولون تثبيته على الأرض وينكلون به بوحشية! كما رؤيتها لتعذيبه داخل أقبية التحقيق وهو يبكي ويقول للمحققين الذين يحيطونه: "مش متذكر"، ويضرب يديه برأسه باكيًا وهم يصرخون بوجهه: "انت كاذب".
مواقف كثيرة زارت ذاكرتها وهي تعد اللحظات على باب السجن كي يعود الطفل الذي انتزعوا منه براءته ظلمًا وقهرًا، تبكي كتبه التي تركتها على مكتبه منذ عشر سنوات، فقد كانت تؤمل نفسها بأن العناق لحظة الحرية يجُبَ ما قبله من قهر!
ق
لم تنسَ والدة "مناصرة" وكانت تحدث من حولها من المنتظرين عن بكاء "احمد" يوم المحكمة حين رآها من بعيد وظن أنها ستحتضنه، فمنعه جنود الاحتلال حتى النظر إليها، وفي كل محكمة يحاول الضباط الوقوف أمامه حتى لا تراه! وكان أكثر ما أوجعها كما قالت لهم يوم لقائها به في زيارتها له وسؤاله عن عصافيره وملعب الكرة الذي كان يلعب به رغم مرور سبع سنوات يومها على اعتقاله، لتتوجع الأم كيف أن طفولة ابنها كبرت في الزنازين.
"اليوم الأول للمدرسة" من كل عام، أكثر ما كان يقهر قلب "أم أحمد"، حيث عد الصباح بدلًا من طابور الصباح، وهموم تثقل قلب صغيرها بدلًا من اللهو مع زملائه وشراء القرطاسية، وتفاصيل كثيرة كانت تعج بقلبها وتصيبه بألم لا ينتهي!
كما لقاء واحد لم تنسه الأم في إحدى جلسات المحكمة حين حاول المحامي خالد زبارقة أن يطلب من القاضي السماح لأمه بعناقه، فلم يسمح لها إلا بلمس أصبع واحد من يد ابنها، تقول عن هذا اللقاء: "ابني لم يترك أصبعي وظل يقبله وهو يرتجف ويبكي بشدة، ولم أستطع ترك إصبعه لمدة لم تتجاوز الدقيقتين".
"مناصرة" يعد من الأسرى الذين تصنف حالتهم المرضية بالخطرة، حيث كان يعاني من ظروف صحية ونفسية صعبة للغاية، بعد أن تعمد الاحتلال بعزله عزلًا انفراديًا لعدة سنوات، فقد شُخصت بمرضَي الفصام والاكتئاب الحاد، وفق تقارير دولية.
يوم أمس العاشر من إبريل أفرج الاحتلال عن أحمد مناصرة بعد انتهاء محكوميته، لكنهم وللحظة الأخيرة ينكلون به ويعذبونه، فقد حلقوا له شعره بالكامل ووضعوا رأسه في القمامة قبل تحريره بساعتين، ومنعوه من استقبال المهنئين والحديث مع الصحافة.
كانت العائلة تنتظر "مناصرة" على باب "سجن نفحة"، وبعد ساعات تلقت اتصالًا من شخص غريب يخبرهم بأن الاحتلال ألقاه في الشارع بمنطقة بئر السبع وحيدًا في ظل وضع صحي صعب، فأخذه الشاب إلى بيته لحين وصول عائلته، وبعد ساعتين تلقى اتصالًا من مخابرات الاحتلال في القدس لاستدعائه وإخباره بمنع الاحتفالات بالحرية وتسليمه إشعارًا بقرار الاحتلال حبسه منزليًا وغرامة مالية.
لم يكن "مناصرة" وحده من سرقت قضبان الزنازين سنين طفولته، وألقته في غياهب الجب مريضًا حزينًا، فأكثر من 340 طفلًا فلسطينيًا معتقلًا تحت سن ال18 عامًا، يعيشون في ظروف لا تصلح للعيش الآدمي، منتظرين أن تشرق شمس الحرية.
صبحُ اليوم كان عيدًا بتكبيراته وبهجته في قلب "أم أحمد" حيث عاد طفلها إلى بيته وسريره وكتبه وألعابه وعصافيره التي كان يسأل عنها في كل محكمة.. عاد لكل شيء بفارق عمرٍ "عشر سنوات من القهر".