Blog

ضفيرتان وبندقية

قصة الشهيد عبد الله أيوب

كنا عائدين من السوق إلى البيت، وحين اقتربنا تذكرت أني سأعود إلى نجمتاي دون لعبة أو شيء يسر خاطرهما، دهشت زوجتي.. إذ لاحظت كيف انزعجت من نفسي لفعلي هذا، أما أنا فبحثت سريعًا عن أقرب محل ألعاب كي تطير قلوبهما فرحًا، فأنا بابا بطلهما الأول وحبيبهما أيضًا.
كان ذلك في الخامس من أكتوبر.. الهدية التي اشتريتها بملء فرحي ودمعي كذلك، كنت أعلم أنها الأخيرة التي ستقدم لهما بيدي.. لكنني كنت أوقن أن هناك هدايا عظيمة في قلبيهما تجاه الرجل الذي تتعلقان به كثيرًا.
ألمى وتالة.. الجانب الأكثر بهجة في حياتي، حين كبرت ألمى قليلًا.. قررت أن آخذها إلى موعد عشاء وحدنا.. أتحدث إليها، أسمعها وتسمعني.. وفي قرارة نفسي هدفي الأسمى بناء مملكة حب في قلبها تكون هي أميرتها.
وصلنا البيت، فطارت الفراشات في قلوبهن حين عدت لهما بلعبة مفضلة لديهن: "اللوح والسلايم"، وغرقتا في بحر ضحكاتٍ مصدرها "بابا عاصمة الفرح".
عدت يومها بذاكرتي إلى ما قبل ست سنوات، حين ارتبطت بابنة المخيم "حنين"، فكانت نعم الرفيقة والسند، كانت الأم والأب في أيام غيابي عن البيت، أما ثمرة حبنا "ألمى و "تالة" فلم أرهما غير باب الجنة في دنياي وآخرتي.
ست سنوات كان البيت ملاذي بعد التعب، وعلى عكس كثير من الآباء فقد كنت أعود بعد نهار متعب فأراهما نائمتين، وقد أكل الشوق لهما قلبي، فمرة أحزن لذلك ومرة أخرى أستسلم فأيقظهما من نومهما لألعب معهما وأطمئن عليهما.
وما قبل الست سنوات كنت في السودان، أكمل دراستي في كلية الشرطة هناك، ثم عدت إلى غزة محاضرًا جامعيًا في كلية الشرطة، ينهل الطلاب من معين العلم الذي ملأته لأفيد به أبناء غزة.
ليلة السادس من أكتوبر.. جهزت لهما سهرة جميلة، فيلم أطفال مفضل لهما، وأكلات طفولية، جلست برفقتهما نحضره، وسط ضحكات كانت تملأ جنبات البيت، بينما يعتصر قلبي أن الليلة القادمة يومها ستكون ليلة الوداع..
ليلة السابع من أكتوبر، وما أقساها في رزنامة أيامي، وما أعظمها في قلبي.. احتضنت ابنتاي كثيرًا.. أوصيت زوجتي، أخبرتها أنها كانت أجمل إضافة في حياتي، وأنني أنتظرها سيدة قلبي في الجنة، كما أحببتها في الدنيا، وأن السنوات الست التي قضيتها معها كانت الأكثر أنسًا بعمري الثلاثين.
إذا قضيت شهيدًا.. فافخري أنك زوجة شهيد، وإذا عدت لكم فاعلمي أنكن حبات عيناي.. إذا رحلت فكوني على يقين أن الله سيتولاكن من بعدي.. هكذا أخبرت حنين، فاتسعت بؤرة عينيها حزنًا.. ورغم انها اعتادت على وصاياي.. إلا أنها بكت كثيرًا يومها، فقد كان حدسها يسبق إنكارها لرحيلي كما كل مرة.
أوجعتني ضفيرتان نامتا على أمل أن أرافقهما إلى الروضة، أوصلهما على الدراجة النارية، أسرع في الطريق فجأة لكي أضحكهما، وفي لحظة أبطئ سيري كي أطيل الطريق معهما.
وفي الصباح
تركت ضفيرتين أحبهما
في وطني الصغير
وشددت بندقية
عشت معها نصف عمري ويزيد
خرجت إلى وطن كبير
قضيت شهيدًا لأجله
صبح السابع من الشهر العظيم
بقيت حنين صامتة أمام أسئلتهما
وين بابا؟
حيرجع بس تخلص الحرب؟
بابا في الجنة؟
بدي بابا وينه؟
دموع مريرة.. غزيرة
وأسئلة كثيرة
تضج بعقل الصغيرة
وشوق يراود
قلب الكبيرة
واستفهام يأكل فؤادهن جميعًا
"ما جدوى حياتنا دون عبد الله"؟
فهي حياة بلا أفق
ولا ألوان قوس قزح
أنا الشهيد القسامي
عبد الله أيوب
ولابد لي من تعريف آخر بي
أنا أب مثالي لصاحبة الضفيرتين
تركت لهما إرثًا عظيمًا
تكملان به بقية حياتهما
سيرتي وأثري
أخبروهما أنني أحببتهما كثيرًا
لكنه الأقصى!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى