تقارير

"حصان العودة" هشّموا الجسد وبقيت الذاكرة

رأسه نحو حيفا.. تعبيرًا عن كل أهالي مخيم جنين الذين ترنو عيونهم نحو العودة إليها، بعد أن هجروا قسرًا منها عام 1948م، وسكن القهر قلوبهم منذ 75 عامًا.

أما جسده.. فكل قطعة منه تروي حكاية فلسطينية، كمركبة كان يستقلها شهيد، أو سيارة إسعاف منعت من نقل الجرحى، أو بقايا من دمار المخيم، حتى أسموه: "حصان جنين"، و"حصان العودة".

ذكرى لا تغيب

ابنة مخيم جنين "حياة ديرية" (33 عامًا) التي حاورتها منصة القدس 360 لتحدثنا عن رمزيته أسمته أيضًا: "الشاهد على تاريخ جنين" فهو بنظرها مصدر القوة التي تربوا عليها صغارًا بعد انتفاضة الأقصى، ومصدر العزيمة حين أصبحوا كبارًا وشهودًا هم أيضًا على عنجهية الاحتلال.

تصف حياة يوم نصب البلدية تمثال "حصان العودة" في دوار مخيم جنين:"يومها كان الحزن يخيم على مخيم جنين، تلحظ ذلك بمجرد أن تطأ قدماك عتباته حتى تدخل إلى عمقه ولكن بمجرد نصب الحصان بعد شهور، دخل الفرح المخيم ، والسعادة ألقت بظلالها على قلوب أهاليه، فهو يخلِّد صمودهم لمدة عشرين يومًا"، لا سيما أن الدوار الذي نُصِب فيه المجسم كان مقبرة مؤقتة للشهداء الذين ارتقوا في المعركة، فكان مجسم الحصان تكريمًا لهم.

ما هو حصان العودة؟

هو نصب تذكاري وواحد من الرموز الشاهدة على تاريخ مخيم جنين، شيّده الفنان الألماني توماس كيلبر عام 2003م، الخبير في صناعة المجسمات الفنية من المعادن، تخليدًا لشهداء معركة نيسان، وتكريمًا لأهالي مخيم جنين الذين سطروا أجمل صور الصمود خلال الاجتياح الشرس الذي نفذه الجيش الإسرائيلي عام 2002م، على مناطق الضفة الغربية، ومنها مخيم جنين.

وأثناء الاجتياح دمرت آليات الاحتلال مركبات الفلسطينيين بما فيها سيارات الإسعاف وسياراتهم، وحين زار الفنان توماس كيلبر فلسطين، فاقترح على بلدية جنين أن يصنع مجسمًا رمزيًا، على شكل حصان بارتفاع بلغ ثلاثة أمتار، وطول ستة أمتار، وعرض متر واحد، ليرمز إلى القوة، ثم نصبوه في دوار المخيم، موليًا وجهه نحو حيفا.

وعن شكله الخارجي فقد صنعه من بقايا المركبات المدنية التي دمرتها آليات الاحتلال، لا سيما من بقايا سيارة الإسعاف التي كان يستقلها الطبيب خليل سليمان، وهو مدير مركز الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة جنين والذي استشهد خلال عملية إسعاف وإنقاذ مصابين داخل المخيم.

جسد الحصان منذ أن نصبه الفنان "توماس" على مشارف المخيم تمسك الفلسطينيين بحق عودتهم إلى حيفا، كما أبقى صور المأساة والصمود في الوقت ذاته حيّة في الذاكرة.

قتل الصمود

وفي اليوم الأخير من أكتوبر العام الماضي.. شن الجيش الإسرائيلي هجومًا عسكريًا على مخيم جنين، استيقظ يومها أهاليه على صوت جرافاتهم ومعداتهم، وسط فوضى عارمة ضج المخيم لأجلها، ليتفاجؤوا بالدمار الواسع الذي أحدثه الاحتلال.

تقول "حياة": "حين انسحب الجيش خرج الجميع لتفقد ما حدث ليلة الهجوم، ففوجئنا بالشهداء الملقية جثثهم في ساحة المخيم، بعد تدمير الساحة بالكامل، واقتلاع الحصان من مكانه وسرقته" وتكمل: "التعدي على الحصان الذي كان يرمز إلى قوة المخيم وصمود أهله هدفه إيصال رسالة أن كل شيء مستهدف في جنين حتى رمزية القوة والصمود والرموز التي تدل على الثبات رغم المعاناة".

بطش الاحتلال

طالت الانتهاكات معالم ساحة مدخل المخيم كلها، فقد جُرِّفت بشكل كامل، وتحولت إلى حفر وأكوام من التراب، تلك الساحة كان يعدها أهالي جنين فضاء واسعًا لكل مناسباتهم، كالاحتجاجات وبيوت العزاء والأفراح واستقبال الأسرى يوم الإفراج عنهم.. عدا عن تدمير البنية التحتية فيها، واقتلاع أعمدة الكهرباء، ما أدى إلى فيضان كميات كبيرة من المياه بالشارع بعد تجريف الشبكات الأرضية الواصلة إلى بيوت المخيم.

وقبل اجتياح أطراف المخيم، شنَّ الاحتلال الإسرائيلي 15 غارة استهدفت عدة مواقع داخل المخيم، ثم دخلت الآليات العسكرية تحت غطاء من الطائرات المسيّرة وطائرات الاستطلاع.

قهر سكن جنبات المخيم، فذاك يتساءل وهو يجلس قبالة الدوار وقد خلا من رمزية الصمود: "كنا نروي حكاية الحصان لكل أطفال المخيم ونقص لهم روايات الشهداء الذي قضوا في اجتياح جنين"، ويقول آخر: "هذا شاهد على صمودنا منذ عشرين عامًا"، بينما انزوت "حياة" جانبًا وبكت شهداء اجتياح جنين، الذين ترتبط روايتها لقصصهم بهذا الحصان حين وضع كتذكار لسيرهم وبطولاتهم، وختمت حديثها: "باسم كل أبناء مخيم جنين.. هم هشموا الحصان ولكنهم لن يمسوا بصمودنا.. فثباتنا لا حد له و الشهداء باقون في أزقة ذاكرتنا وأرواحنا".

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى