Blogتقارير

فلاحات باب العامود.. سلال تعبق برائحة الأرض

قبل شقشقة ضوء الصباح بساعات.. تحمل الحاجة السبعينية "أم سعدي البشيتي" بقجة الخضروات على رأسها، وفيها من خيرات أرضها الكثير كالفجل والباذنجان والسبانخ، وبيدها سلة مصنوعة يدويًا من القش تمتلئ بالنعناع والميرمية وباقات البقدونس التي تفوح وتعبق برائحة البلاد.

خمسون عامًا لم تكل "أم سعدي" ولا تمل من الوقوف أمام الحواجز، تتنقل بسلال الخضروات بين جندي يفتشها وحاجز يعرقل وصولها من الضفة إلى القدس.

رحلة السنين الطوال روتها الحاجة "أم سعدي" من قرية "نحالين" لمنصة القدس 360، وما بين حكاياها.. تبكي تارة وتضحك أخرى، بينما تغني من أهازيج الزراعة والأرض ما تطرب له الأسماع.

رحلة عذاب يومية

عادت الحاجة "أم سعدي" بذاكرتها إلى ما قبل ثلاثين عامًا، واصفة طريق وصولها إلى القدس برحلة العذاب اليومية، تقول بصوت يرتجف ألمًا: "رحلة وصولي إلى سوق الفلاحات كان بمثابة رحلة قاسية تبدأ من الساعة الثالثة فجرًا حين أنطلق من بيتي، بينما  نقف لساعات على الحواجز لتفتيشنا وتفتيش السلال والبقج والخضراوات".

كان الوصول إلى آخر نقطة تقترب منها إلى القدس بمثابة تحدٍ يومي وحلم جميل يتحقق في نفوس الفلاحات  اللاتي يأتين من قضاء بيت لحم والخليل والقرى المجاورة مثل حلحول، وبيت أمّر، ودورا، والخضر، وبتّير.. ولكن إرجاعهن في بعض الأيام لعدم امتلاكهن لتصريح دخول القدس كان يقلب هذا الحلم الجميل إلى كابوس، فبعضهن يعدن بسلالهن بقهر كبير، لا سيما أنهن يفتحن بهذه المهنة اليومية بيوتهن ويربين أبناءهن ويكملن تعليمهم من ريعها، فأغلبهن زوجات معيلات بعد غياب الزوج إما شهيدًا أو أسيرًا.

كانت الفلاحات يمشين طرقًا التفافية كثيرة للتحايل على الحواجز العكسرية التي يقاسون فيها الأمرين، يركضن تارة ويهربن تارة أخرى، ويمشين طريق "الطنطور" إلى "جبل غنيم" إلى "وادي الحمص"، ومن "الرام" و"بير نبالا"، وأحيانًا من "بوابة أبو ديس".

وبمجرد وصولهن تفترش الفلاحات الخضراوات التي حملنها  على قارعة شارع صلاح الدين الأيوبي مرورًا بشارع السلطان سليمان ووصولًا إلى باب العامود، كما تتواجد بعضهن في طريق الواد وسوق خان الزيت في البلدة القديمة، فيبعن في الصيف الباذنجان البتيري الذي يجلبنه من قرية بتير في بيت لحم، والفاصولياء والخيار والفقوس وورق العنب، وفي  الشتاء يبيعن الخبيزة والبصل الأخضر والسبانخ والزعتر والبقدونس والفجل والميرمية والزعتر والزبيب وزيت الزيتون و (المخللات)، والملبن والدبس.

تشديد وتضييق

كان الاحتلال يضيق على فلاحات باب العامود بتعليماته وقوانينه، فكل من هي تحت سن الخمسين لا يجوز لها دخول القدس لتبيع ما جنته يداها من أرضها، عدا عن إدخالهن مرات أخرى بصعوبة بعد مصادرة بعض الخضراوات والفواكه، ذنبها في ذلك أنها تحمل هوية فلسطينية خضراء أي أنها من سكان الضفة الغربية وممنوعة من دخول القدس.

بمجرد دخول "أم سعدي" سن الخمسين" أصبح أمر دخول القدس سهلًا وبلا تعقيدات، تكمل حديثها بأسى: "لكن حياة الفلسطيني بالقدس لم تكن مريحة يومًا والاحتلال واقف لنا بالمرصاد، تختفي معاناة وتظهر معاناة أصعب".

فمكان فلاحات القدس لم يكن مدرجات باب العامود وساحته، بل كان هناك سوق مخصص للفلاحات يمتد من باب العامود حتى باب الجديد، يأتين منذ ساعات الفجر الأولى، يفرشن الخضراوات على رفوف محلاتهن وبسطاتهن، قبل أن يحكم الاحتلال عليهن بتحويله إلى بسطات بمساحات صغيرة جدًا على الأرض في محاولة لقبض يد السيطرة عليهن.

وبسبب التضييقات على الفلاحات بعد الانتفاضة الثانية، وتهديدهن الدائم بالاعتداء عليهن ومصادرة منتوجاتهن، قل عدد الفلاحات اللاتي يأتين إلى السوق، لا سيما حين فرضت بلدية الاحتلال عليهن ضرائب ورسومًا أكبر من ريع بيعهن، أقامت البلدية الحواجز العسكرية وأغلق السوق.

لم يترك الاحتلال وسيلة لقهر فلاحات باب العامود إلا وانتهجها كإتلاف الخضار والفواكه ورميها أرضًا، ومصادرتها مرات أخرى، عدا عن استدعائهن للتحقيق والحجز، الاعتداء عليهن وضربهن وسحلهن خلال جلوسهن أمام بسطاتهن التي يفترشنها على الأرض، عدا عن الجنود الذين يركلون صناديق الخصار والفواكه بأرجلهن.

تهويد لتفاصيل القدس

أسباب كثيرة جعلت الاحتلال يقف لفلاحات باب العامود بالمرصاد.. فكيف لخضرة الأرض أن تكون دالة على عربية الأرض حاملة رائحة البلاد الزكية!! فقد أرادوا تهويد الساحة.. ساحة باب العامود الذي يطلق عليها المقدسيون ساحة الشهداء لكثرة الشباب المقدسيين الذين رحلوا على أعتابها مسطرين بطولات تاريخية في الاشتباك مع جنود الاحتلال.

ساحة باب العامود كذلك تعد القلب النابض للقدس، وشريان حياتها، ومدخل البلدة القديمة الرئيس، كما أنها نقطة اتصال الأحياء المقدسية والحارات بالبلدة القديمة!

سلوك الاحتلال إزاء الفلاحات مرتبط بالرغبة العارمة لديه بإذلال الناس وإهانتهم وإبعادهم عن القدس، وهدفه الرئيس هو تغيير مشهد تدافع الناس إلى البلدة القديمة، فهي محط أنظار كل المدن الفلسطينية، فقد كانوا يأتونها من كل المدن والقرى للتبضع، ولكن مع هذه التضييقات وطرد الفلاحات فإنه يهدف إلى تغيير المشهد المقدسي اليومي كله، كما يحاول في اللعب بجغرافيا المكان وتحويله إلى يهودي الطبع.

تحدٍ يومي

بنبرة التحدي والعزيمة التي لا تلين ستتذكر أم سعدي كيف كانت بعض الفلاحات يدخلن البضائع إلى المدينة المقدسة حين يعترضهن الجنود ويمنعهن من الدخول لعتبات القدس، بالتهريب أو عبر طرق التفافية، في رسالة منهن: "لن نبرح القدس وستبقى رائحة الأرض تفوح في عاصمة بلادنا".

بينما كان للحاجة الفلاحة "أم  أمجد شواهنة" من قرية بتير حسرة أخرى تسكن قلبها .. فقد كانت منذ عشرين عامًا ترافق زوجها إلى سوق الفلاحات، لتبيع الحليب والألبان والأجبان التي تصنعها بعد أن تحلب أبقارها.. فمع تضييقات الاحتلال وتحديد المنتجات التي يسمح لهم بإدخالها.. فإنها اكتفت بباقات البقدونس وأوراق الدوالي التي تقطفها من أشجار العنب أمام حديقة بيتها.

وبمجرد وصولها كل يوم وافتراشها الأرض، فإنها تعده انتصارًا على الجنود الذين أصروا على إرجاعها حتى تمل ولا تعود مرة ثانية، بينما أصرت هي على إكمال مسيرة زوجها الذي قتل هناك على باب العامود، وهو يدافع عن طفل صغير يسحلونه للاعتقال... انتصارات صغيرة بحد ذاتها، كبيرة في عين المقدسيين هناك في ظل الاحتلال الذي يريد تهويد مدينتهم وعربنة ملامح الحياة اليومية فيها.

صوت الفلاحات لا يتوقف في ساحة باب العامود وهن ينشدن أهازيج شعبية "زرعنا الميرمية ع باب الدار"، وأخرى تنادي: "بالزيت والزيتون والفلفل الأحمر وهي اللبنية"، ينشدنها وهن يرتدين أثوابهن المرسوم عليها سنبلة الأرض، وأخريات تعرف من تجاعيد أيهديهن أنهن أطول من عمر الاحتلال بكثير.

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى