تقارير

بالحبس المنزلي.. الأم سجانة والبيت زنزانة

من القاسي أن تبدأ أم رواية قصة أحد أبنائها بكلمة: "كنت سجانة ابني"، رغم مخزون الحب تجاهه، كأم المقدسي علي صبرة.

هو مقدسي من قرية صور باهر قضاء القدس، مارس الاحتلال الإسرائيلي بحقه أكثر العقوبات قهرًا لأطفال القدس وهو الحبس المنزلي، حين كان في الربيع الثالث عشر من عمره.

حكاية وجع مقدسية

حاورت القدس 360 والدة المقدسي علي صبرة، للحديث عن تجربتها وقت سجن ابنها علي، لتبدأ حديثها باكية وهي تعود إلى ذكريات ما قبل تسع سنوات: "هل تتخيلون أن يحول الاحتلال طاقة الحب ومخزون الحنان عند الأم إلى قسوة تضطر إليها لمصلحة ابنها؟"

كان ذلك حين حكم الاحتلال على الطفل المقدسي عام 2015م بالحبس المنزلي في بيته بتهمة رشق حجارة، تلك العقوبة التي يلجأ الاحتلال إليه، كوسيلة لتدمير مستقبل الأطفال الفلسطينيين، وتعريضهم للتعذيب النفسي ، بهدف التنغيص عليهم وحرمانهم من حقوقهم كافة، لاسيما المقدسيين منهم.

تحولت أم علي إلى سجانة ابنها، لأنه بمجرد أن يخل طفلها بشروط الحبس المنزلي، فإنه يتحول إلى السجن الفعلي، وينتقل إلى زنازين رطبة لا تصلح للعيش الآدمي.

تروي أم علي للقدس 360 معاناة عشرة شهور من السجن المنزلي لابنها، ابتداء من مناداة أطفال الحي له للعب معه فيبكي حتى تتورم عيناه، انتهاء بالأزمة القلبية التي يعاني منها علي، واحتياجه للذهاب إلى المستشفى.

ما هو الحبس المنزلي؟

الحبس المنزلي عقاب الاحتلال الإسرائيلي للأطفال المقدسيين، لحرمانهم العيش بهدوء داخل المدينة المقدسة، وهو يقضي بالمكوث في البيت وعدم السماح بالخروج منه حتى للعلاج والمدرسة.

وبهذا العقاب يحول الاحتلال آلاف الأبناء والأمهات المقدسيين إلى سجانين على أبنائهم، يحرسونهم ويراقبونهم بمجرد صدور الحكم عليهم، وذلك بتركيب الإسوارة الإلكترونية بأرجلهم، ليكونوا حراسًا عليهم حتى لا يتخطوا البوابة الخارجية لمنزلهم، حتى لا يختل شروط الاعتقال للطفل، أو اعتقال الكفيل الذي التزم بعهود الحبس المنزلي.

ذاكرة أم

مواقف مؤلمة مرت كشريط موجع على ذاكرة أم علي، لا سيما حين اضطرت لشراء المواد الغذائية الناقصة من البيت ولم تستطع يومها الخروج، فشعرت كأن أحدًا شق قلبها بسكين حاد حين أخبرها طفلها عن إحساسه بالجوع.

وكذلك حين أجبرت على المكوث معه في القرية التي أبعد إليها، ما أدى إلى تشتت العائلة وابتعاد الأم عن أبنائها.

والموقف الأصعب حين اضطروا إلى نقله للمستشفى، بعد عشرة شهور من الحبس المنزلي، بسبب اشتداد الأزمة القلبية عليه ، فخرج أبوه به إلى المستشفى، فهي لم تتخيل أن قائمة التعهدات والالتزامات تمنع الذهاب إلى العلاج أيضًا، وبعد ساعة أحاط قرابة ال 200 جندي بيت العائلة بأسلحتهم وطائراتهم واعتقلوا علي رغم حالته الصحية الكارثية.

انتقل "صبرة" من الحبس المنزلي بشروط تعسفية إلى زنازين ضيقة لطفل يعاني من مرض القلب، وقد حرم من كل حقوقه في التعليم والعلاج وزيارة أقاربه والخروج بحرية للجلوس مع أصدقائه قبل انتقاله إلى مدافن الأحياء.

أكثر من مائة محكمة تعرض لها "صبرة" دون مراعاة الاحتلال له في البوسطة التي ينتقل بواسطتها إلى المحاكم كونه مريضًا، ليحكم عليه بالسجن الفعلي تسع سنوات ونصف.

أنواع الحبس المنزلي

يفرض الاحتلال الإسرائيلي نوعين من الحبس المنزلي على الأطفال المقدسيين، ويضع لهم أجهزة تتبع “سوار إلكتروني”  مع GPS  .. فالأول أن يحكم عليه بالمكوث في البيت ويكفل أحد والديه ألا يتخطى حدود المنزل، والثاني أن يكون بالإبعاد عن منزل الأهل ما يجعلهم يعانون من المشاكل النفسية بالابتعاد عن المحيط الذي تعودوا عليه، والمشاكل الاجتماعية بتشتت العائلة.

عدا عن المشاكل المادية لاضطرارهم إلى استئجار بيت بعيد عن سكناهم في حال عدم توفر بيت لأحد الأقارب لاستقبال طفلهم فترة الحبس المنزلي.

وبهذا العقاب حول المحتل الغاشم مئات البيوت المقدسية إلى سجون تضيق بأطفالهم، وعوائلهم إلى سجانين قاسين بنظرهم، ما يجعل الأطفال يكرهون العائلة ويدخلون في دوامات نفسية أكبر من أعمارهم، كالخوف الذي يسيطر عليهم، ويسكن القلق في دواخلهم أن يقتحم الجيش البيت للتأكد من التزامهم بعهود الحبس، ما يؤدي إلى إصابة الأطفال بالعصبية، وتسببهم بالعدوانية تجاه الأشخاص الذين يحيطون بهم، عدا عن الشعور الدائم بالإحباط بسبب فقدانهم حريتهم.

ظهور عقاب الحبس المنزلي

منذ سنوات طويلة بدأ الاحتلال بعقاب العائلات المقدسية بالحبس المنزلي، وبدأت تظهر بعد خطف الطفل محمد خضير وقتله، ثم امتلأت الاحتجاجات في شوارع فلسطين، شارك وقتها آلاف الأطفال الفلسطينيين في هذه الاحتجاجات عام 2014، واتسعت مشاركاتهم بعد هبة القدس عام 2015.

وبعد عام 2022م أقر الاحتلال الصهيوني عددًا من القوانين التي أجازت اعتقال الأطفال القصر ومن هم دون 14 عامًا، وتشديد العقوبات بحق الأطفال المتهمين برشق الحجارة، ما أعطى صلاحيات أكثر للشرطة والمحاكم باستمرار اعتقالهم.

وفي المنتصف الأول من العام الجاري 2024 ارتكب الاحتلال 708 حالة اعتقال في كافة مناطق محافظة القدس، بينهم 73 طفلًا مقدسيًا، ومنهم 28 قرارًا بالحبس المنزلي.

وبهذه السياسة يقهر الاحتلال الصهيوني الإنسان المقدسي، وينتقم منهم ويعذبهم نفسيًا بهدف ترويعهم وتخويفهم وجعلهم يفقدون الثقة بعوائلهم، ويتأثرون في توجهاتهم ومعتقداتهم في سياق العقاب الجماعي للمقدسيين، ضاربًا بعرض الحائط القوانين الدولية الإنسانية.

فكان هذا العقاب يهدف إلى وأد فكرة المقاومة في قلوب الأطفال المقدسيين قبل أن تكبر داخلها، كما أنها وسيلة لدب الرعب في قلوبهم وقلوب عوائلهم ألا يسلك الأطفال طريقًا كهذا حتى لا يتم عقابهم بالحبس المنزلي.

تمامًا كما حدث مع علي صبرة الذي رأى الانتهاكات بحق المرابطات في ساحات المسجد الأقصى المبارك بضربهن وسحلهن، فرشق برفقة أصدقائه سيارة مستوطن بالحجارة فكان عقابه السجن المنزلي ثم الفعلي ولسنوات طويلة.. عدا عن أنه عاقبه بعد انتهاء محكوميته أيضًا بإبعاده عن بيت عائلته في صور باهر إلى قرية "أم طوبا".

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى