تقارير

الإبادة الصحفية في غزة.. اغتيالٌ للعدسة والقلم والحقيقة

"نافذة الجمال على غزة".. هكذا يصف الصحفيون صفحة الانستجرام الخاصة بالصحفي "مصطفى ثريا" منذ أن أصبحت الكاميرا رفيقته، فقد كان يصور الجانب الفاتن من مدينة الحب والحرب غزة، بعد أن عاتبه قبل الحرب أحد الأصدقاء خارجها أنه والصحفيين لا يصورون للعالم إلا الأوجاع فيها!

كان مولعًا بتصويرها، فاشترى كاميرا للتصوير الجوي، صور بها بحرها وأطفالها وطقوس المناسبات فيها كأهازيج الصيادين وزينة الأعراس، وبائعات الفراولة، يحمل كاميرته باحثًا عن زوايا مضيئة في مدينة الأمل والدمار، كي ينقل للعالم صور الحياة في غزة بعيدًا عن المحتل الذي ينغص على الغزيين بهجة حياتهم.

ولد "ثريا" عام 1994م، وأكمل تعليمه وتخرج في كلية الإعلام، وعمل في عدة وسائل إعلامية فلسطينية، ثم لدى وكالة الصحافة الفرنسية، وفي عام 2023م أصبح مصورًا لقناة الجزيرة.

لم يكن يتوقع "مصطفى" أن زرقة السماء والألوان المبهجة على صفحته ستتحول إلى رماد، وأن صور الفتيات بفساتينهن وملابس العيد ستتحول إلى صورهم بأشلاء مقطعة وملابس مضرجة بدمائهم، فلم يعد يبتسم له الأطفال بل يصور جثامينهم حين يصبحون اسمًا على لائحة الشهداء، حتى أصبحت "نافذة على الدمار" الذي حل بغزة منذ أن قرر الاحتلال شن حرب إبادة عليها في السابع من أكتوبر.

في خيمة الصحفيين مكث "ثريا" منذ اللحظة الأولى من الحرب، تاركًا زوجته وفتياته الثلاث ينتظرنه كل يوم ليعود، ولشدة القصف والأحزمة النارية لم يستطع الذهاب كثيرًا للاطمئنان عليهن، إلا دقائق معدودة في أيام متباعدة، ليقضي مائة يوم من الحرب، وهو يتنقل بين أماكن المجازر لينقل للعالم وحشية الجيش النازي الذي ارتكب أبشع الجرائم بحق أطفال ونساء غزة، فلم يبق هيئة موت إلا وأذاقها لهم، فتبخرت الأجساد ودفنت على بعد أمتار تحت الرمال، وماتوا خنقًا دون دماء تسيل..

بعد مائة يوم من المحرقة، نشر "ثريا" على خاصية القصص عبر حسابه الرسمي في تطبيق انستجرام صورًا وفيديوهات لمجزرة بشعة ارتكبها الاحتلال بحق عائلة بريص في خانيونس، ثم انطلق برفقة زميله حمزة الدحدوح بسيارة قناة الجزيرة إلى مكان مجزرة أخرى لتغطيتها.

"أماني ثريا" شقيقة "مصطفى" تحدثت "للقدس 360" عن يوم استشهاده: "صاروخ مباغت فجر السيارة وفتت جسده وجسد حمزة الدحدوح، فقط لأنهم أرادوا أن ينقلوا للعالم وحشية المحتل ويفضحوا جرائمه وعنجهيته"، وتضيف: "عرَّض مصطفى حياته للخطر كثيرًا، إلا أنه آثر البقاء في الميدان، وحمل على عاتقه عبء التغطية الإعلامية، وكتب على صفحته قبل استشهاده بيوم: "ميتة طيبة، في مكان طيب، على حال طيب يرضي الله"".

اختلف المشهد يوم استشهاد "مصطفى"، فأمه هي التي نقلت الخبر والصورة هذه المرة، وضعت خوذته الصحفية التي امتلأت بدمائه على جثمانه، وشيعته إلى المقبرة، وقالت للكاميرات: "صوروا.. أم تحمل جثمان ابنها الصحفي مصطفى أبو ثريا"، وعند حافة القبر، أشهدت العالم على ابنها الذي كان يحمل كاميرا ليكون أحد شهود الإجرام على محتل غاشم، فقد شعرت أنها شيعت ابنها وبقيت الكلمة والصورة الحقيقية شاهدة على مشواره الصحفي.

لم يكن "أبو ثريا" وحده من حاول الاحتلال الغاشم إخماد صوته وكسر عدسة كاميرته واستهداف أهله بسبب نقله الحقيقة إلى العالم أجمع، فالاحتلال قتل أكثر من مائتين وخمسة وعشرين صحفيًا من قطاعِ غزة، حرقًا وقصفًا وقهرًا وخوفًا، وأصيب أكثر من مائة وتسعين صحفيًا، رغم الحصانة الدولية التي يتمتع بها الصحفيون في العالم، بينما دمر أكثر من مائة مؤسسة إعلامية.

عدساتٌ كثيرة كسرها المحتل، رصدوا من خلالها المشاهد ببث مباشر للعالم، وكشفوا زيف الرواية الصهيونية، وصوروا عنجهية الاحتلال الكاذب، وعبرها.. نقلوا للعالم مشاهد الأطفال الناجين وحدهم بعد رحيل عوائلهم، نحيب الأمهات أمام جثامينِ أطفالِهم الشهداء، ركام البيوت حين ينهارُ شقاء العمرِ في دقيقة، بكاء الأطفال على ركام بيوتهم.

وفي اتصال هاتفي قال إسماعيل ثوابتة المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة "للقدس 360": "الاحتلال يقتل ويصفي الصحفيين في غزة، ويهدف بذلك إلى ترهيبهم، وطمس الحقيقة، ومنعهم من التغطية الإعلامية لجرائمه ضد الأطفال والنساء والمدنيين، في إطار حرب الإبادة الجماعية على جميع أطياف شعبنا".

كما أكد أن الصحفيين تخطوا حاجز الرهبة وبقوا في الميدان، يسلم بعضهم الكاميرا لمن خلفهم، وتمكنوا من اختراق وتجاوز الترهيب الذي حاول الاحتلال فرضه عليهم، وأضاف الثوابتة: "تمكن الصحفيون من إيصال رسالة مظلومية شعبنا الفلسطيني إلى العالم، وفضح الاحتلال وجرائمه ضد الإنسانية، التي كان أكثرها قسوة قتل الأطفال والنساء وقصف المنازل".

ختم "الثوابتة" حديثه بمطالبة الاتحادات الصحفية والهيئات الإعلامية والحقوقية بإدانة هذه الجرائم والضغط على الاحتلال لوقف هذه الحرب الإجرامية ضد الصحفيين والمدنيين.

وفي اغتيال ممنهج للصحفيين في غزة، ما يزال المحتل العنجهي يغتالهم وهم في الميدان أو في بيوتهم نيامًا بين أطفالهم، حتى على سرير المستشفى تمامًا مثلما اغتال الصحفي حسن اصليح قبل أسبوع، وهو يرقد في قسم الحروق بمستشفى ناصر يتلقى العلاج من إصابته في حرق خيام الصحفيين، في جريمة مكتملة الأركان ضاربًا الاحتلال بعرض الحائط القوانين الدولية والحصانة التي يجب أن يتمتع بها المرضى والصحفيون أيضًا.

الصحفي حسن اصليح

وضمن سلسلة جرائم الاحتلال البشعة التي ارتكبها المحتل بحق الصحافة الفلسطينية، اغتال فجر أول أمس خمسة صحفيين باستهدافهم وهم نيام في بيوتهم، لينضموا إلى قائمة الشاهدين الراحلين على بطش المحتل، بقلمهم وصورتهم وصوتهم، هم الصحفية نور قنديل وزوجها الصحفي خالد أبو سيف، والصحفيون عبدالرحمن العبادلة وعزيز الحجار وأحمد الزيناتي.

الصحفية نور قنديل وزوجها الصحفي خالد أبو سيف

حاول المحتل الغاشم كسر العدسات وإخماد الصوت، ولكن التغطية في غزة بقيت مستمرة، والصوت مستمر، والصحفيون في الميدان، يسلم المصورُ الكاميرا لمن خلفَه، ويكمل الأحياء بقيةَ الصوت، لأن صوت غزة لا يُكتم.

ولأن الصحافة ليست جريمة، رحل الصحفيون الشهداء، وبقيت كلمتهم وصورتهم تجوب العالم، وهي تتخطى أسوار المدينة المحاصرة!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى