Blog

عن "ياسمينة الدار" في حيفا.. بداية الحكاية والألم!

تحت ظلال "ياسمينة الدار"، جلس أبوها ممسكًا مفتاح البيت ومحكمًا قبضته عليه.. للمرة الأولى ترى "سهام الصفدي" أباها يكتسي وجهه بالحزن ويبكي! وللمرة الأولى أيضًا تكون شجرة الياسمينة التي تظلل باب بيتهم مصدر ألم لا سعادة كما اعتادت عليها العائلة!
في حيفا.. وحين اشتد يومها صوت القنابل من حولهم، صعد الحاج "الصفدي" على سلم خشبي إلى سقيفة البيت، كي يخرج بعض الحاجيات من المونة المخزنة للموسم السنوي، حين نوى الخروج من حيفا.
على باب البيت، بكت العائلة جميعها، تذكر "سهام الصفدي" (90 عامًا) اللحظات المؤلمة جيدًا، حين ارتجف صوت والدها قائلًا لهم وهو ينظر لياسمينة الدار: "يومان ونعود.. غمة وستزول.. لن يطول بعدنا عن البيت وسنعود لنسقي الياسمينة"!
كانت "الصفدي" في الثانية عشرة من عمرها حين غادرت حيفا، هذه السنوات كانت كافية لأن يتجذر حب حيفا في قلبها، فالتفاصيل لم تغب من ذكر اتها بعد ٧٧ عامًا!
عبر السكايب.. تحدثت "منصة القدس 360" مع الحاجة التسعينية "سهام الصفدي" في الذكرى السابعة والسبعين لنكبة وتهجير الشعب الفلسطيني عام 1948م، للحديث عن حيفا وأزقتها وناسها وعاداتها وأفراحها وأتراحها !
كان من الغريب أن تبدأ الحاجة "الصفدي" الحديث عن زيارتها لـ12 دولة أوروبية وعربية منذ تهجيرهم من حيفا، لكنها لم تنسَ تفاصيل حيفا، فقد اختارت في النهاية العيش في "دمشق" لأنها تشبه "حيفا"، كما كان من الغريب أن تخبرنا بدعائها اليومي ألا يصيبها "الزهايمر" فتغيب عن ذاكرتها حيفا بذكرياتها التي تؤنس قلبها، كالسمان أبو أحمد وحلة الشاي لجارات أمها ومدرجات الكرمل وبائعة الجبنة واللعب مع أبناء جيرانها، والسهر حتى الفجر في أيام الحصيدة.
من حيفا إلى غزة، انتقلت "الصفدي" وعائلتها رغم أن أهل حيفا هاجر معظمهم إلى لبنان، تقول: "كان أبي يظن أن العودة قريبة جدًا، لذلك اختار غزة"، وتسهب في التفاصيل المؤلمة يوم مغادرة "حيفا": " بعض الأهالي ضاع منهم أبناؤهم يوم مغادرتها، لصعوبة الأحداث وشدتها، فمهما بكينا وذرفنا الدموع فلا فائدة من ذلك، فكما يقولون "كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما".

من حيفا إلى غزة والمنفى

في غزة كانت تتوق عيون الحاجة "الصفدي" إلى حيفا، حتى أصبح فؤادها فارغًا إلا من القهر..ومن جميل الصدف التي تذكرتها وسط الحزن الذي سيطر عليها أن الشاعر "هارون الرشيد" كان جارها في غزة، فكانت دندنته تؤنسها وهو يردد: " وما زال بين تلال الحنين، وناس الحنين، مكان لنا.. فيا قلب كم شردتنا الرياح، تعال سنرجع هيا بنا".
زاد الألم في قلب الحاجة "الصفدي" حين اضطرت للهجرة مرة ثانية خارج غزة، تقول: "كانت غزة من ريحة البلاد، أما حين خرجت منها فزاد ألمنا وشعرنا بالكارثة التي أصابتنا نحن وعوائلنا".
طلبٌ يومي اعتاد أحفاد الحاجة "سهام" عليه، يقول حفيدها الذي شاركها حديثها مع "منصة القدس 360": "لم يمر يوم إلا وتحدثنا جدتي عن حيفا، وتطلب منا أن نريها صور مدرجات الكرمل التي كانت تقضي إجازتها الصيفية بالجلوس على عتباته، وتتجول عبر الهاتف يوميًا بين معالم حيفا الشهيرة، فهي تتجول بنا في شوارعها بذاكرتها، ونحن نتجول بها عبر الأجهزة الحديثة".

ذكريات تعصف بالذاكرة
عن "شهر نيسان" الذي تبغض "الصفدي" ذكرياته لا سيما الثاني والعشرين من تقويمه، تقول بغصة واضحة على وجهها: "صنعت لأمي وجاراتها حلة الشاي الكبيرة وجلسن تحت الياسمينة على باب البيت، وبعد دقائق اشتد القصف على حيفا، وأصبحت القذائف تتطاير فوق رؤوسهن، فتفرقن دون أن يكملن الجلسة وفي اليوم التالي هاجرت كل واحدة منهن على بلد مختلف".
لم يكن حب الحاجة "الصفدي" لحيفا مجرد كلام عابر، بل درست التاريخ كي تحفظ أزقتها وتاريخها وجغرافيتها وكل مفاصل النكبة التي مرت بها، كما عملت معلمة للتاريخ لمدة خمسين عامًا، كي تورث حبها لحيفا للأجيال الذين لم يشهدوا أيام حيفا والبلاد المسلوبة".
ترك المحتل الغاشم ندبة مؤلمة في قدم الحاجة "الصفدي" عاشت معها في منفاها، تمامًا مثلما ترك ندبة في قلبها لا تُشفى منها في سنين البعد الطوال، حيث كانت ذاهبة لشراء الحلقوم من بقالة الحارة، فأصابها جندي على ناصية الشارع برصاصة في قدمها، تصف "لمنصة القدس 360" تلك اللحظات وكأنها حدثت للتو: "مر إسعاف وأنا مصابة ولم يستطع الوقوف لأنه يحمل إصابة خطيرة.. ثم اشتد القصف حولنا فصرخ سمان حارتنا بصوت عال لتنبطح على الأرض، فلمحتها بائعة الجبنة التي كانت طقسًا من طقوس صباحاتهم في الحارة وخاطرت بنفسها لأجل أن تحملها إلى بيتها حتى يخفت صوت الرصاص قليلًا".
ففي الثاني والعشرين من نيسان عام 1948م، زاد هجوم منظمتي الهاجناه والأرجون الصهيونيتين على حيفا، وأطلق على هذا العدوان "المسبرايم" أي المقص بالعربية، وتعني أن "حيفا" هوجمت من ثلاث جهات، الأولى من منطقة الهدار باتجاه وادي النسناس ومنطقة البلد، والثانية من البلدة حيث المركز التجاري باتجاه الهدار، والثالثة من الهدار باتجاه حي الحليصة.
"كيف طخ أهل الطيرة بحر حيفا" وسط دموع تنهمر من عيونها.. ضحكت الحاجة "الصفدي" في ختام حديثها مع "منصة القدس 360" بهذا السؤال: تقول: "كان هناك عريس يزفه أهل الطيرة وهي مكان معروف بحيفا على شاطئها، فجاءت مياه البحر على طرف أقدام العروسة خلال الزفة، فغضب العريس وقال للمعازيم إذا عادت المياه على قدمها فسأطخه، فعادت المياه وطخ البحر".
"كل الأماكن السياحية التي زرتها خلال 77 عامًا، كانت بمثابة أماكن بلا روح"، ختمت حديثها بهذه العبارة، ثم رددت مرارًا: "شبر من حيفا، بكل البلاد".

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى