رصاصةُ الجوع
تعلّق أطفالي بثوبي وأنا أتجهز للخروج، توسلوا بي بقلوب خائفة وصوتٍ مرتجف:
"يمّا، لا تتركينا... نخاف أن تطالك رصاصة الجندي الغادرة!"
وعلى غير العادة، لم أصغِ لبكائهم، خرجتُ رغم رجائهم، فبكاء الجوع الذي يعتصر بطونهم كان أشدّ على قلبي من كل خوف.
كان ذاك الصباح هو اليوم الأول الذي يحدده المحتل الغاشم لتسلم النساء للمساعدات الأمريكية في منطقة زيكيم، تلك المناطق التي تحولت إلى مصائد موت جماعي، أحمل في صدري وجع المجاعة التي فتكت باطفالي، كما يعصف بروحي فقدان إخوتي الثلاثة هناك..حين قرر المحتل أن يعودوا إلى بيوتهم جثثًا هامدة في كيسٍ يقطر دمًا، بدلًا من أن يعودوا بكيس طحين يسد رمق أطفالهم!
كنت أعرف أن الموت هناك أقرب من رغيف، وأن كثيرين سبقوني إلى ذات المصير، لكنني مضيت.. لأجل علبة حليب أطفئ بها بكاء رضيعي، وكيس طحين يسكت قرقعة معدات أبنائي الذين يبيتون كل ليلة يتقلبون من شدة الجوع.. فلم أكن أتخيل ولا في أشد الكوابيس التي يراها الإنسان أن يأتي اليوم الذي أرى فيه ملامح أطفالي تذبل أمامي.. وأنينهم يشتد..
أما أنا.. فأقف عاجزة، فليس بيدي أن أوفر لهم رغيف خبز!
في طريقي إلى زيكيم، رأيت أجساد الصغار تتهاوى من شدة الجوع، نساء لم تعد أقدامهن تقوى على حملهن، الوجوه شائبة والعيون حائرة.. أما أنا فيراودني حلم بسيط: "أن ينتفض العالم لأنين البطون الخاوية، لصرخات الأمهات على جثامين أطفالهن وهن يعتذرن لهم أنهم رحلوا وهم جائعون، تتقد في روحي أمنية واحدة: أن يرفض العالم مضي النساء إلى مصائد الموت تاركين خلفهم أطفالًا يبكون غيابها والجوع!
وبينما أنا غارقة في ذاك التفكير، وصلت منطقة زيكيم، خطوت خطواتي الأولى بين الحشود حتى باغتتني رصاصة قنص مباشرة في صدري، رصاصة أنهت حياتي، فكنت أول امرأة أفقد حياتي لأجل لقمة العيش!
عدتُ جثة هامدة
لا بزجاجة حليب
لم أعد بأملٍ يعيد ضحكات أطفالي
بل بوجع أبدي
حين غابت عن عيونهم "ماما"..
عدتُ لهم بيتمٍ يرافقهم دهرًا
وبقهرٍ أصبح رفيق أيامهم
سيزيد من حرقة قلوبهم
كلما رأوا رغيف خبزٍ في يدِ أم لصغارها..
خذلني العالمُ كله
حين طلبت رغيف خبزٍ
كي يبقى أطفالي
على قيد الحياة!
اخترت حياتَهم
وقتلوني أنا
أنا شهيدة رصاصة الجوع
أول امرأة تُقتل في مصائد الموت
حملتُ إلى السماء
وجع الأمهات في غزة
خديجة أبو عنزة