106 أعوام على وعد بلفور: دول الاستعمار التي أسست لوجود "إسرائيل" لا تزال ترعى جرائمها
إنّ "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية". هذه الرسالة القصيرة الصادرة في 1917/11/2، عن وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور، كانت تعبيرًا عن سياسة ومنظومة احتلالية تعتنقها الإمبراطورية البريطانيّة، أسّست بها للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
تكرّس وعد بلفور بالقرار الصادر عن المجلس الأعلى للحلفاء في مؤتمر سان ريمو في 1920/4/25؛ الذي أقرّ وضع فلسطين تحت "الانتداب" البريطاني. وكان قرار "الانتداب" في مؤتمر سان ريمو تثبيتًا لاتّفاقية سايكس-بيكو السرية التي أُبرمَت عام 1916 لتقسيم المنطقة العربية بين الدول الاستعمارية، وقد وضع لفلسطين نظام خاص للتفاوض بشأنه بعد انتهاء الحرب، تمهيدًا لإعدادها لتكون الوطن القومي لليهود.
على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى في 1918/11/11، أنشأت الدول المنتصرة عصبة الأمم التي أوكل إليها تقسيم أراضي الدولة العثمانية بين فـرنسا وبريطانيا، فأعلنت في 1921/7/6 مشروع "الانتداب" البريطاني على فلسطين، وصادقت عليه في 1922/7/24، ثم وضع موضع التنفيذ في 29 أيلول/سبتمبر من العام ذاته.
وقد مهّد الاحتلال البريطاني لفلسطين لوضع وعد بلفور موضع التنفيذ، استجابة لبحث الصهاينة عن وطن قومي لليهود يجتمعون فيه تمهيدًا لنزول المخلّص. وهكذا، لم تنسحب بريطانيا من فلسطين إلا بعدما تأكّدت أنّها يمكن أن تعهد بدورها إلى كيان وظيفي تزرعه مكانها فيقوم بدورها؛ وتوافقت هذه الرؤية مع المساعي الأوروبية للتّخلّص مما سمي بـ "المشكلة اليهودية"، فخرج الاحتلال الإسرائيلي من رحم الاحتلال البريطاني الذي ساعد على تحويل اليهود في فلسطين من أقلية دينيّة إلى مجموعة ذات وزن رسّخت وجودها ودعمتها في قتل الفلسطينيين وتشريدهم من أرضهم.
وتبنّى صكّ الانتداب المؤلّف من مقدّمة و28 مادّة مصلحة اليهود وتأسيس وطن قومي لهم في فلسطين؛ بل إنّ المقدّمة قالت إنّ دول الحلفاء وافقت على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التّصريح الذي أصدرته في الأصل حكومة صاحب الجلالة البريطانية عام 2017 وأقرّته الدول المذكورة لمصلحة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وأشارت المقدمة كذلك إلى أنّ وعد أو تصريح بلفور "اعترف بذلك بالصّلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد".
واستلهمت مواد صكّ الانتداب روح وعد بلفور، بما يعكس حرصًا على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ومن ذلك على سبيل المثال المادة 6 التي نصّت على أن تسهّل [الدولة المنتدبة] هجرة اليهود في أحوال ملائمة، وأن تشجّع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية".
لم يكن وعد بلفور وليد لحظته، فقبل ذلك تقدم وزير الداخلية هربرت صموئيل، وهو أول يهودي يحتل منصب وزير بريطاني، باقتراح إلى إدوارد غري، وزير الخارجية البريطاني، بإقامة دولة يهودية في فلسطين، واقترح ذلك مجددًا على رئيس الحكومة أسكويث في عام 1915. وفي العام ذاته، قدّم إلى مجلس الوزراء مذكّرة سرية بعنوان "مستقبل فلسطين"، اقترحت "وضع فلسطين تحت السّيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة، وعلينا أن نزرع بين المحمّديين (مصطلح كان يعني الفلسطينيّين المسلمين) بين ثلاثة وأربعة ملايين يهودي يتم إحضارهم من أوروبا". وقد وافق رئيس الحكومة البريطاني لويد جورج على إصدار وعد بريطاني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما صيغ على شكل رسالة من بلفور وزير الخارجية إلى اللورد الصهيوني ليونيل وولتر روتشيلد مؤرخة في 1917/11/2.
على الرغم من الدور المفصلي الذي لعبته بريطانيا في نكبة فلسطين، وفي تشريد الفلسطينيين من أرضهم وبلادهم، وفي المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحقّهم، إلا أنّها ترفض إلى اليوم الاعتذار عن هذه "الخطيئة"، بل تفخر بارتكابها. ففي عام 2017، رفضت حكومة تيريزا ماي الاعتذار عن وعد بلفور، وأعربت عن الفخر بدور بريطانيا في إيجاد "دولة إسرائيل".
وفي عام 2017 كذلك، خصّ بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني في ذاك الحين، صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بمقال رفض فيه الاعتراف بأيّ مسؤولية تاريخية لبلاده بالاستيلاء على فلسطين، وتشريد أهلها للتأسيس لإقامة "إسرائيل". وعنونت الصحيفة المقال بـ "وعد جونسون" الذي دافع كاتبه عن وعد بلفور، مشيرًا في الوقت ذاته إلى تضامن بريطانيا مع الشعب الفلسطيني وحقّه في تقرير المصير. دفاع جونسون عن وعد بلفور كان سبقه إقراره في كتاب له نشر عام 2014 أنّه "غريب"، "ومجانب للصواب تمامًا"، "وقبيح".
هذه التصريحات ليست مجرد كلام عابر، بل تعبير عن الالتزام المطلق من دول الاستعمار التي عملت على إقامة "دولة إسرائيل"، برعايتها والدفاع عن جرائمها، وهو ما تجلّى بوضوح مؤخرًا في الموقف الغربي عمومًا الذي تبنّى الدعم الكامل لعدوان الاحتلال على غزة، لا سيما من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا التي أعلنت وقوفها إلى جانب "إسرائيل" في قتلها المدنيين بذريعة القضاء على المقاومة، وهو العدوان المستمر منذ 2023/10/7، والذي أدّى، على مدى 27 يومًا، إلى ارتقاء أكثر من 9000 شهيد إضافة إلى أكثر من 23 ألف جريح معظمهم من النساء والأطفال، من دون أن تفكّر هذه الدول في وضع حدّ للمذبحة التي ترتكبها ربيبتها بحقّ الفلسطينيين!