تقارير

ناجون وحيدون: "كيف سنكمل الحياة وحدَنا؟"

على سرير المستشفى تجلس رهف، عيناها مغمضتان من أثر الصاروخ، يتحدث الطبيب بالإنجليزية لقريبتها: "لا تخبروها أنها فقدت البصر للأبد، وأنها لن ترى بعد اليوم"، تستيقظ رهف من وقت لآخر تبكي بكاء شديدًا لأن العتمة طالت في عينيها...تبكي غيابَ أمها والنور المنطفئ فيهما.

الطفلة رهف

بين كل ساعة وأخرى تسأل الأطباء: "هل تعرفون أين أمي؟؟ أبي؟؟ إخوتي؟؟ لماذا تركوني في المستشفى وحدي؟ إذا أخبرتم أمي ستأتي في الحال فلن تتركني وحيدة"، ثم تبكي منهارة!

وأمام تساؤلاتها ينظر الأطباء ببعضهم ويصمتون.. فكيف يقولون لطفلة فقدت حبيبتيها أن عائلتها بالكامل قد استشهدت ورحلت!! وأنه لا أمل في عودة بصرها، وأن جرح قدمها يحتاج إلى خياطة عميقة لا تتوفر أدواتها في المستشفى بعد أن خرجت عن الخدمة ويحاول الأطباء تقديم الرعاية الصحية بإمكانيات بسيطة جدًا!!

أطفال من مدينة القهر

تتساءل عمتها التي ترافقها أيضًا هي الأخرى: "من يخبر الطفلة ذات العشرة أعوام بكل هذه الأوجاع؟! وكيف ستكمل رهف حياتها دون سند لها من عائلتها؟" تقول باكية في حديثها مع منصة القدس 360: "هربوا من الموت إلى الموت فكل مكان في غزة خطر، فقد نزحت هي وعائلتها من مخيم الشاطئ حين أمر الاحتلال بإخلائه، إلى مركز الهلال الأحمر في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة"، وتكمل: "في الليلة الأولى التي نزحوا فيها استهدفهم المحتل الغاشم بصواريخ وهم نيام، لترتقي العائلة بأكملها وتبقى رهف فاقدة للبصر والعائلة".

تنتظر رهف أن تأتي أمها لتخبرها أن عيونها تؤلمها.. وأن فقدهم حولها زاد من ألم إصابتها، كما أن العتمة الدائمة التي أصبحت بعينيها زاد من رقعة الخوف في قلبها.

ليس رهف فقط هي الطفلة التي تتساءل أين عائلتها ولماذا تفتقد يد أمها كي يذهب الحزَن!، ففي قلوب أطفال غزة الناجين دون عائلاتهم، صرخات صامتة، وألم لا يعرفون لمن يبوحون به، فلا يعدون أنفسهم ناجين من موت، بل شاهدين على انهيار حياة كاملة بغياب العائلة، فلا كتف يسندهم من قسوة الحرب، ولا قلوب تتحمل إكمال الحياة بذاكرة مثقلة وخطوات مرتجفة دون رفيق!

وجعٌ منذ نعومة الأظفار

حكاية وجع أخرى تسكن قلب عم الطفلة الرضيعة "آيلا أبو دقة" الناجية الوحيدة من عائلتها بعد استشهاد عائلتها بأكملها، كان ضيف منصة القدس 360 ليروي فصل الألم الذي يسكن قلبها منذ أن انتشل ابنة شقيقه الرضيعة من تحت أنقاض البيت.

ففي أحد الصباحات الأولى التي عادت بها الحرب والموت بعد هدنة مؤقتة، قصف الاحتلال العنجهي بيت شقيقه وسط خانيونس، ليرحلوا جميعًا وتبقى طفلتهم التي أتت على الحياة قبل 25 يومًا فقط من القصف ناجية وحيدة وشاهدة على حرمان المحتل للأطفال منذ أن يبصروا النور فتحيل حياتهم إلى عتمة دائمة بفقدان العائلة!

الطفلة أيلا

الطفلة آيلا أسامة أبو دقة، لم تمهلها الحياة في غزة أن تسمع اسمها من أمها وأبيها، فقد خرجت من أنياب الموت وحدها، بعد أن سمع طاقم الدفاع المدني صوتها تبكي تحت أنقاض المنزل، ثم تصمت وتعود للبكاء من جديد.. يقول عمها خالد أبو دقة للقدس 360: " قصفوا البيت عليهم، واستشهدت أسرتها بأكملها، أبوها وأمها وأخوها، بينما كانت آيلا وحيدة تحت الركام تصرخ بصوت لا يكاد يُسمع، والأقسى من ذلك أن عملية إنقاذها كانت صعبة، لأن الإمكانات محدودة جدًا والدفاع المدني ينتشل الضحايا بصعوبة فائقة، فهم يحتاجون إلى معدات ثقيلة لإزالة الأسقف المنهارة على العائلات".

فوق ركام البيت بقي الدفاع المدني من الساعة الثالثة فجرًا وحتى الثامنة صباحًا، يحاولون انتشال جثامين عائلة "أبو دقة"، وفجأة سمع أحد رجال الدفاع المدني صوت طفلة تبكي، فعلموا أن هناك ناجية تحت الردم، يكمل عمها: "مشهد خروج آيلا كان مفرحًا، فقد استطعنا إخراجها بمساعدة الجيران والأصدقاء، ولكن أن تخرج وحيدة وتكمل حياتها دون عائلة في عمر صغير جدًا جعل قلوبنا تتآكل من الحسرة".

صرخة في وجه الفقد، سيبقى الناجي الوحيد في غزة، وصفحة في كتاب المآسي الذي يحمل في طياته تفاصيل الوجع الذي لا تنتهي، سيحملون من مشقة الحياة ما يثقل أكتافهم الصغيرة. كما سيبقى سؤال لم يستطلع أحد إجابتهم عليه: "لماذا نجوتُ وحدي؟ ولماذا لم أمت معهم؟"، وسؤال قاسٍ سيبقى عالقًا في قلوبهم: "كيف سأكمل الحياة وحدي؟"!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى