"مريم" ترمي دميتها وتحمل "جُمجمة"!
رمت مريم دميتها جانبًا، تلك التي كانت تلازمها في كل لحظة، فلم تعد لعبتها الصغيرة قادرة على مواساتها بعد أن أفزعها صوت الطبيب وهو يخاطب عائلتها: "اثنا عشر يومًا فقط… والوقت ينفد، يجب أن تسافر مريم"، شعرت وقتها أن الزمن تحوّل إلى وحشٍ يطاردها، يركض أمامها بجمجمتها المتجمدة كأنها كرة ثلج تتدحرج منها ولا يمكنها الإمساك بها، تمامًا مثلما تحوم في رأسها أسئلة تجرح طفولتها: "لماذا رأسي ليس مثل باقي الأطفال؟ هل سأعيش حتى عيد ميلادي القادم؟ هل سأستعيد شعري لألعب مثل صديقاتي؟ وهل سأترك جمجمتي وأمسك بلعبتي مرة ثانية؟".
أسئلة أكبر من عمرها بكثير، تتدافع في عقلٍ صغير لم يعد يحتمل هذا الوجع، ويشتعل في داخلها الخوف من أن يسرقها الموت قبل أن يُعاد الجزء المجمّد من جمجمتها إلى مكانه، أم سيتحرك أحد من هذا العالم لأجل دموعها كي تضحك مرة أخرى!
في ثلاجات مختبر مجمع ناصر الطبي في خانيونس، يحتجز الأطباء عظام جمجمة الطفلة "مريم إبراهيم" منذ أكثر من 10 أسابيع، والتي كان يجب أن تعاد إلى رأسها بعملية دقيقة لا تتوفر إمكانياتها في مشافي غزة، وإلا ستفقد الحياة.
ضرر دماغي أصاب مريم، حين اندلعت صواريخ الاحتلال ترمي بحقدها على الآمنين في بيوتهم، فأصيبت مريم بشظايا صاروخية إثر استهداف البيت المجاور لهم تسببت بكسر الجمجمة، فاضطر الأطباء إلى إزالة العظمة الأمامية اليسرى من رأسها، ما أدى إلى تغيير شكلها الطبيعي بعد عدد كبير من العمليات الجراحية.
لم تقتصر مأساة الطفلة مريم على ملامح رأسها المشوّهة بفعل الجراحة، بل تفاقمت لتتحول حياتها اليومية إلى سلسلةٍ من الأوجاع التي لا تحتملها طفلة بعمرها الصغير؛ حيث انتفاخ رأسها يضغط عليها بقوة، وتعاني من صداع لا يهدأ، ونوبات صرع متكررة تفتك بجسدها كما حرارة جسدها التي ترتفع بشكلٍ خطير، وتفاجئها دوامات من الدوخة وتشنجات حادة.
للمرة الأولى لم يتحدث والد "مريم" أو والدتها، فقد روت مريم ذاتها قصتها لمنصة القدس 360، تقول والحزن يغلف صوتها الطفولي: "كنت حلوة كتير كتير، خربت راسي، كنت نايمة وفجأة صوت قوي كتير كتير صحاني من النوم، خفت كتير كتير، ما عرفتش أجري لامي من الخوف والعتمة.. أغمى عليا بعدين صحيت ع سرير المستشفى، وجع براسي بقدرش أوصفه، حرارتي عالية، والأطباء بيزعلوا عليا لما أعيط، لحد ما سمعت طبيب بيحكي لامي إذا ما سافرت بتموت، خايفة كتير أموت، ضايل عشر أيام لازم يزرعولي جمجمتي المجمدة.. بناشد كل العالم إنهم يخلوني أسافر وما أموتش".
وبعد نوبة بكاء طويلة أكملت حديثها: "بخاف أنام وما أصحى تاني، ماما كل يوم بتعيط عليا، بشوفها بس هيا بتضل تخبي وجهها مني، وكل صحباتي صاروا يشجعوني عشان الأطفال كانوا يتنمروا على راسي وأنا أعيط كتير كتير، بضلني أشوف صوري تبعت زمان، كنت حلوة وشعري طويل، بس الدكتور حلق لي شعري كله، صرت بشعة، وزي الكبار".
هكذا اختصرت الطفلة ذات الاثني عشر عامًا معاناتها ومناشدتها ومخاوفها، تتسابق مع الساعة ورزنامة الأيام لترميم رأسها، تنزح الآن برفقة الخوف وهي تعد تنازليًا للحياة، تجر حزنها الطفولي بين الخيام ومخيمات النزوح، تتحدث عن جمجمتها للجميع كأنها لعبتها الأخيرة التي تخشى ضياعها، بل كأنها اللعبة المنجية خلال عشر أيام فقط!