تقارير

"مجزرة الباقة".. القهوة وداعٌ أخير!

هل سمعت بخيمة نزوح في أمريكا!؟ قماش مهترئ يجرفه البحر تارة ورياح العواصف تارة أخرى.. فرش بالية لا تقي شمسًا ولا زمهريرًا.. أغراض منزل مشتتة كما يقولون: "من كل قطر أغنية"!؟ في خيمة النزوح هذه أيضًا تنعدم الخصوصية، ويشتد فيها بكاء الأطفال وأنين النساء الفاقدات! بينما الصوت ثابت فيها.. حيث يختلط صوت أزيز الرصاص وهدير البحر مع صوت الحياة اليومية المرهقة!

خيمة النزوح في قلب أمريكا كانت تمامًا كخيام النزوح غزة، أنشأها الصحفي إسماعيل أبو حطب عن بعد بتنظيم من مؤسسة "By Palestine"، تحاكي وجع النازحين والمصابين والفاقدين والمشردين! أراد بها أن يشعر الناس بجحيم الخيمة في غزة، فمن تطأ قدماه هذه الخيمة يتخيل تجربة الذل والنزوح والقهر، فلم يرد أن يُدفن وجع غزة في ذاكرة منسية.

داخل هذه الخيمة، أقام المصور والمخرج السينمائي "أبو حطب" معرضًا لصوره التي التقطها منذ بداية الحرب عن النازحين الذين شردوا من بيوتهم قسرًا، تعكس ألوانها وعناصرها هشاشة الحياة اليومية التي اقتصرت على طوابير الشقاء!

"ما بين السماء والبحر" كان اسم المعرض الذي أقامه "أبو حطب" رغم المعابر المغلقة، وفي صوره كان الأطفال حاضرين وهم يلعبون فوق ركام المنازل، وأيضًا الأمهات اللواتي عشن شقاء لا يوصف في تأمين لقمة تسد رمق أطفالهن في ظل المجاعة، كما وثق وجوه الناس المتعبة وهي تنتقل من مكان لآخر ليجدوا مكانًا آمنًا! وأراد بهذا الاسم أن يوصل رسالة: "في غزة.. تحول الشاطئ من فسحة أمل إلى سجن كبير مفتوح على السماء"!

أصيب "إسماعيل" في قصف إسرائيلي في الشهر الثاني من حرب الإبادة، لكنه لم يغلق عدسة كاميرته، كانت تنزف مع جرحه، وتنزح معه أينما حل، فقد قال ذات يوم: "لم أكن مجرّد شاهد صامت خلف الكاميرا. كنتُ نازحاً أبحث عن مأوى، مصاباً أجرُّ قدمي، فاقداً بيتي وأحبّتي، ومحاطاً بالخطر الذي يحيط بكل مار من أمام عدستي.. وأنا أصور المقهورين كنتُ أبحثُ عن صوتي المفقود في وجوههم وعن نجاتي من خلال قصصهم، فكلّ صورة التقطتُها لم تكن عنهم فقط، وإنما عنّا جميعاً.. عن غزّة التي لا تُختصر في موت، لتُروى على أنها حياة مستمرّة رغم كلّ شيء".

آمن إسماعيل أن صوره التي تظهر تعب الناس في حياة النزوح توصل رسالة لكل المتجولين في معرضه أن التهجير في فلسطين ليس انتقالًا من مكان لآخر، بل هو تجريد للإنسان من حقوقه البسيطة كافة، كالأمان والخصوصية والراحة!

بينما رأت الفنانة التشكيلية الغزية "آمنة السالمي" أن معرض "ما بين السماء والبحر" هو شهادة صمود قدمها "إسماعيل" أمام العالم الصامت من قلب غزة إلى لوس أنجلوس، كما عدته محاولة فلسطينية لتوثيق الألم والكرامة معًا.

"الصور عبرت البحار وهزمت الحدود وروت الحقيقة"!! خاطبت "السالمي" نفسها بهذه الكلمات بعد أن قررت أن توصل هي الأخرى رسوماتها إلى ما بعد حدود غزة المحاصرة.

في كافتيريا الباقة حيث يجلس إسماعيل لالتقاط نقطة انترنت لينشر صوره للعالم، ذهبت "السالمي" لتقابله حاملة في قلبها حلمًا جديدًا قارب على الانتهاء، كي يضعا اللمسات الأخيرة لمشروعهما المشترك وهو إطلاق متجر إلكتروني لتسويق لوحاتها الفنية المستوحاة من غزة للعالم، كانت تحمل "آمنة" لوحتها الأخيرة، فتاة مغمضة العينين، تملأ الدماء وجهها الحزين من قهر الحرب!

على الطاولة المقابلة تجلس الشابة "صفاء عبدالهادي" تطلب من أخواتها الهدوء والتأمل في البحر وفناجين القهوة بعد أن حصلن عليها بعد غياب! لم يستجبن لطلبها، ففي قلوبهن كثير من الكلام عن الحرب وفرقتهن كل منهن في مخيم نزوح مختلف، بينما أصرت صفاء أن يلتزمن بتجاهل الألم وتركيز أذهانهن في رشفة القهوة التي حرمن منها لشهور.

تخاطبهن: "جئنا لننسى أيام الشقاء، الباقة دايمًا للرواق"، وبدأت أخواتها يسردن ذكريات ما قبل المحرقة التي أشعلت في غزة ولم تطفا منذ قرابة العامين، حيث كانت "استراحة الباقة" على شاطئ غزة مستراحًا من تعب الأيام، ترسو فيها القلوب على قليل من ضفة الراحة.. قبل أن تصبح مكانًا يشحن الناس به هواتفهم ويسترقون من قسوة الحرب لحظة هدوء!

وفي الزاوية التي تقابلهم والتي تطل على شاطئ البحر مباشرة، جلست علا وخطيبها نسيم صبحة يخططان ليوم الزفاف المنتظر يرتشفان القهوة كفنجانين أخيرين قبل الزواج، وقررا أن يجعلا تاريخ الزفاف كرزنامة جديدة لفرحة تبدأ من جديد، رغم الفقد الذي أصاب قلب "علا" فأفقدها أمها وأخواتها شهيدات بينما نجت هي، حيث جعل المحتل الغاشم التواريخ المفرحة في حياتهما إلى ذكريات قاسية بسبب الحرب على غزة.

كانت الاستراحة ملأى بشباب وفتيات لم يستسلموا لظروف الحرب وانقطاع غزة عن العالم، اتخذوها مكانًا للعمل عن بعد، وبينما يغرق الجميع في لحظة سكينة محاولين تجاهل صوت الزوارق والمسيرات الحربية وصوت أزيز الصواريخ الذي لم يتوقف يوم أمس في غزة، زلزل صوت الصواريخ "استراحة الباقة" في استهداف همجي لها، ليقتل المحتل أكثر من أربعين شخصًا وإصابة العشرات ممن أرادوا التنفس على شاطئ البحر للبقاء على قيد الحياة!

اختلف المشهد وانقلب حاله! كراسٍ قُلبت بالجالسين عليها بعد أن غرقوا بدمائهم، غبار ورماد ملأ كل التفاصيل المبهجة التي يعكسها البحر على الاستراحة، فقد بات المنظر مفجعًا لعروس تخطط لتفاصيل زفافها المبهجة حين رأت عريسها مضرجًا بدمائه وقد أصبح الشهيد العريس، أما هي فقد أصيبت بإصابة خطيرة في قدمها..

أما إسماعيل الذي كان ينقل الصورة إلى العالم فقد أصبح جزءًا منها، حين ارتقى شهيدًا في تلك المجزرة وقتلت أحلامه أن يكون صوت غزة!! و"صفاء" التي كانت تسرق من البحر لحظاته الهادئة رغم هديره الغاضب، ارتقت هي الأخرى شهيدة، وأصيبت أخواتها الخمسة إصابات خطيرة!

وبينما كان الجميع يسعف وينقل الجرحى إلى المستشفى مفجوعًا بالحفرة الكبيرة في أرض استراحة الباقة.. كانت لوحة الفنانة "آمنة السالمي" الأخيرة بجانبها، وكأنها نبوءة في زمن الأوجاع لنهايةِ فتاة من غزة.. تمامًا مثلما ارتقت هي.. شهيدة مغمضة العينين بوجه حزين تغمره الدماء وفي يدها فنجان قهوة كان كوداع أخير!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى