كباقي بيوت غزة، كانت عائلة المسعف "جهاد أبو طاقية" تمارس طقوس يوم الجمعة كما العادة، رغم أزيز الرصاص وصوت الزنانة المزعج، وأصوات جنازير الدبابات التي تقترب من البيوت شمال قطاع غزة.
طقوسٌ كاملة إلا من وجبة طعام دسمة اختص بها يوم الجمعة في غزة بسبب المجاعة والحصار.. أجواء عائلية بتواجد أفراد العائلة كلها إلا من انعدام الأمان والضحكات المتعالية منذ الصباح.. فالموت يحيطهم من كل اتجاه، وفقد الأحبة قد كسر في القلب جناحًا كان يحلق بوجودهم وزياراتهم ومكالماتهم يوم الجمعة!
كانت الأم "أسماء جهاد" تقرأ سورة الكهف، وبحضنها آخر العنقود "عبدالرحمن" الذي لم تقف نبضات قلبه تسارعًا منذ صباح ذاك اليوم.. بينما تتوزع وردات بيتها الأربعة في أرجائه يحطن والدهن الذي أخذ استراحة محارب ليوم واحد، فهو المسعف الذي لم يسمح لنفسه بقسط من الراحة ولو لساعة منذ بدء الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
صوت صاروخ قوي أرعد قلب الأم فراحت تردد وهي تشد طفلها إلى حضنها بقوة: "الله يعين اللي نازل عليهم الصاروخ ويصبرهم".. فلم تكن تعلم أن الصاروخ في طريقه إلى بيتها وأولادها..
تروي للقدس 360 ما حدث في تلك اللحظة: "فجأة سمعت صراخ بناتي وأُضرمت النار بالبيت بقوة"، وبعد دقائق استطاعت أن تفتح عينيها من رماد الصاروخ لتجد نفسها ملقاة في الشارع، والناس يقفون أمام ركام البيت من كل اتجاه.
ركضت الأم إلى البيت تبحث عن زوجها وأبنائها، فذهلت بأنهم جميعهم تحت أنقاضه، وبعد نصف ساعة استطاعوا إخراج ابنتها مريم بعد أن احترق جسدها كاملًا لا سيما قدمها فخشيت أن يضطروا لبترها.. ثم توالت الصدمات على قلبها حين بدؤوا بإخراجهم واحدًا تلو الآخر عدا زوجها.. تقول باكية: "زوجي أسعف الجميع ولم يجد من يسعفه".
كان وصول الدفاع المدني والإسعافات صعبًا للغاية، فلم يكتف الاحتلال الغاشم بقصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، بل تعدى إجرامه إلى منع الإسعافات للوصول إلى أماكن القصف، فكان يغلق الشوارع بالدبابات، أو يهددهم بالاستهداف المباشر جوًا إذا تحركوا تجاه البيوت المقصوفة.
ورغم الحروق في جسد "مريم" إلا أنها لمحت أمها أمام الأنقاض، فنادت عليها خائفة ومسكت بيدها كالغريق يريد أن يطمئن على احتمال نجاته، وقالت لها: "انتي عايشة يما الحمد لله الحمد لله"، ومن هول الموقف فقدت الأم الوعي لتجد نفسها بعد ساعات في أروقة المستشفى تتوسل إلى الطبيب الذي يتابع حالة ابنتها الكبرى مريم ألا يبتر قدمها فطمأنها أن قدمها بحالة جيدة، وأن خيار بترها مستبعد.
وحين فاقت الأم من إغمائها، لم تتوقف عن الركض بين أقسام المستشفى تبحث عن زوجها لعلهم أسعفوه وأتوا به إلى المشفى، لتعلم في هذه اللحظات أنه ارتقى شهيدًا، لأن وقت وصول الإسعافات متأخرًا لم يسعفه للنجاة! وأنها في الوقت الذي كانت ترجو فيه الدكتور ألا يبتر قدم مريم، فإن الأطباء بتروا قدم ابنتها الوسطى إسراء ذات السبعة عشر ربيعًا ، أدركت ذلك حين قال لها الدكتور: "الله يعوضكم الجنة، الله يعوض بنتك خير"! وأن طفلها "عبدالرحمن" أصيب بشلل نصفي.
منذ السابع والعشرين من أكتوبر عام 2023م تعاني عائلة المسعف "جهاد أبو طاقية" من إصابات البتر والحروق، وهو الذي ما تردد عن إسعاف المصابين في غزة، ختمت زوجته أسماء حديثها مع "القدس "360: "ما يحرق قلبي أن أبنائي حين احتاجوا والدهم كان قد فارق الحياة فلم يستطع إسعاف فلذات كبده لما قصفنا رغم أنه أسعف عشرات الآلاف من المصابين.. ولكننا راضون بقضاء الله".
لم يكن استهداف المسعفين وعائلاتهم يقتصر على المسعف "أبو طاقية" الذي شهد الميدان بسالته وشجاعته فوق أنقاض البيوت التي تحوي تحتها آلاف المصابين، بل تعدت ذلك إلى استهداف عشرات عائلات للمسعفين الذين كانوا على رأس عملهم.
قصة وجع أخرى عمرها قرابة العام يرويها المسعف في طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني "أحمد أبو فول"، حيث استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي منزله شمال قطاع غزة بعد 70 يومًا من العدوان، والذي ينزح به 80 شخصًا، ليكون حصيلة القصف أكثر من 28 شهيدًا، من ضمنهم أبناؤه الخمسة وشقيقه وأبناؤه ووالده.
اتصال مفاجئ أقلقه فرد مباشرة رغم انهماكه في العمل، يخبره به جاره أن بيته قصف على رأس من فيه، بينما يحيط جيش الاحتلال البيت.. فسارع إلى عمل تنسيق لدخول الإسعافات، فيفاجأ بأن الاحتلال رفض رفضًا قطعيًا دخول سيارات الإسعاف إلى المكان!!
أيام كثيرة يحاول فيها المسعف أبو فول الدخول إلى بيته لانتشال جثامين أبنائه وأقاربه إلا أن كل محاولاته قد باءت بالفشل حتى بعد مرور قرابة العام، يقول: "منذ اليوم الأول حاولت الذهاب لانتشالهم لكن الجيش أطلق علي النار مباشرة، فاضطررت للانسحاب من المكان، وتركت عائلتي تحت الأنقاض".
وبعد أربعة أيام من قصف المنزل، وصل المصابون إلى مستشفى المعمداني، فوجد المسعف "أبو فول" نفسه يقف عاجزًا أمام أوجاعهم لنقص الإمكانات الصحية وانعدامها، فلم يجد إلا مسكنات اضطر لتقليل جرعاتها من ثلاث مرات في اليوم لمرة واحدة فقط كي تكفيهم لأطول فترة ممكنة.
"عن ماذا أتحدث؟ عن 29 فردًا من عائلتي؟ أم شعور القهر أني لم أسعف أبنائي وأبي وزوجتي وإخوتي؟؟ أم عن إحساس العجز الذي سكنني"؟ هكذا أنهى المسعف أحمد أبو فول حديثه.
ورغم الحزن الذي يسكن قلبه، إلا أنه بقي على رأس عمله، ينقذ حياة المصابين الذين يخرجون من تحت أنقاض بيوتهم أحياء، ويسقي من عطش تحت ردم بيته إلى أن يتم انتشاله، فمن فتحات صغيرة كان يمسك أحمد أبو فول برفقة صديقه الشهيد جهاد أبو طاقية بيدين صغيرتين تستنجد خوفًا من عتمة تحت أنقاض بيتها، ويواسيان صغارًا طاروا من البيوت لخفة أجسادهم وحين يعرفون أن عوائلهم ارتقت كاملة، يواسونهم ويخففون عنهم هول اللحظة الأولى للصدمة!!