في سماء الحرية.. رزنامةٌ جديدة لعائلة الأسير "عمار الزبن"
للمرة الأولى تبدأ "بيسان" من المشهد الأخير، فالبدايات موجعة لطفلة كانت في أحشاء أمها حين غيب المحتل الغاشم أباها وراء قضبان السجون، وللمرة الأولى أيضًا تروي "بيسان" مواقف مبهجة تجمعها بحبيبها الأول، بعد أن كان حديثها عن حسرة فتاة ضاع ربيع عمرها في انتظار عناقه!
ميلاد جديد بعد عمر قارب على الثلاثين دون الشعور بالأمان، دون بهجة مكتملة، وبلا كتف تستند عليه، هذا الميلاد الذي لغى التواريخ والأرقام من حياة عائلة كاملة، في اللحظة التي هاتفهم فيها والدهم "عمار الزبن" من سجن عوفر ليقول لهم: "بعد أسبوع سأكون ضمن الأسرى المحررين".
تصر "بيسان" بدء الحديث مع "القدس 360" من مشهد الحرية، حيث اللقاء الذي تخيلته خلال سنوات عمرها بأكمله على باب السجن تعانق والدها ويلتقطون صور التحرير دون أن تنقص الصورة أحد، لكن الاحتلال أبعد والدها إلى جمهورية مصر العربية، ورغم محاولات الاحتلال تنغيص فرحتهم، إلا أنها تعد أي مكان يجمعها به هو وطنها!
تصف بيسان العناق الأول بعد عمر كامل من الوجع: "شعرت أننا طوال الثلاثين عامًا لم يمر علينا لحظة حزن واحدة، فرؤيته أمامنا قد لغت سنوات القهر التي عشناها دونه، رغم أن المعاناة كانت كبيرة والوجع عظيم".
تدافع الناس كثيرًا لحظة الحرية، كلُّ يريد احتضان أسيره الذي غاب عنه سنوات طوال، بينما هي وقفت تكرر سماع مقطع صوتي أرسله والدها حين وصل مصر يمهد لهم تغير شكله، يقول لهم إنني بخير لكن شكلي تغير كثيرًا في السنة الأخيرة بالسجن، ويخبرهم أنه بخير وأن اللقاء قاب قوسين أو أدنى.
لم يكن يعلم "عمار الزبن" حين وصل "مصر" أن الاحتلال العنجهي يمارس بطشه بحقه حتى بعد تحريره، حين علم بأنه منع زوجته وطفليه بالسفر عبر حاجز الكرامة بين الضفة والأردن، كي ينتقلوا بعد ذلك إلى مصر للقائه!
فعلى شباك المغادرة أخبر الاحتلال زوجته بأنها ممنوعة من السفر، فعادت حزينة القلب إلى نابلس، برفقة طفليه مهند وصلاح الدين اللذين أنجبهما عبر النطف المهربة.
"فرحة ممزوجة بالقهر"، هكذا وصفت بشائر النصر الابنة الكبرى للزبن التي التقتها "القدس 360" في مصر، تقول وهي تقلب صورها مع والدها في الهاتف: "بغياب أبي بكينا في اليوم الأول للروضة والمدرسة ويوم تخرجنا في الجامعة حيث عانقت زميلاتنا آباءهن والتقطن معهم الصور، وكنا نحن نتجرع الحسرة".. تصمت قليلًا ثم تتابع عن أكثر ما آلمها في غيابه، حين تقدم شاب لخطبتها وطلبها من والدها في زنزانته عبر الهاتف، أما الوجع الأكبر فكان حين رزقت بطفلتها الأولى وأذن "الزبن" بأذنها عبر الهاتف أيضًا.
أما "بيسان" كانت تشعر أنها أسيرة القهر الذي سكنها في اللحظة الأولى التي رأت بها والدها حين سمح لها المحتل بزيارته بعد أحد عشر عامًا من ميلادها، فلم تتلفظ منذ الولادة بكلمة "بابا".
خرج والدها آنذاك بزي بني قاتم يحيطه الجنود، وبينهما جدار زجاجي، ويتواصل الأسير خلال 45 دقيقة مع أطفاله عبر هاتف يزعجهم تشويشه ليزداد قهره حين قالت له بيسان "عمو" بدلًا من بابا.. فبكى هو ومن معه من الأسرى بكاء المقهور العاجز.
"هذا هو يوم ميلاد العائلة" هكذا وصفت بيسان يوم الحرية، فمن عتمة الزنازين خرج "عمار الزبن" إلى نور الحرية بعد أن قضى أكثر من نصف عمره خلف غياهب زنازين الاحتلال الصهيوني المظلمة!! حيث كان السابع والعشرين من فبراير هو التاريخ الأول في رزنامة حياة العائلة الجديدة، حين تحرر ضمن الدفعة السابعة من صفقة تبادل الأسرى "طوفان الأحرار".
هو الأسير القسامي عمار الزبن، وُلد على قمّة جبل جرزيم في مدينة نابلس عام 1975م، وله من الإخوة أربعة، استشهد أخوه الأكبر بشار عام 1994م بعد تحرره من الأسر، بينما قضت أمه شهيدة أيضًا في خيمة اعتصام للتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام داخل السجون لانتزاع حقوقهم من فم المحتل عنوة، لترحل شهيدة فلم يحتمل جسدها الامتناع عن الأكل لأيام طويلة والاكتفاء بالملح والماء!
انتزاع حق الأبوة
تزوج الزبن من امرأة كانت سنده وكتفه الثابت الذي لا يميل، والتي كسرت كلمة قاضٍ قال لزوجها في محكمته الأولى: "حاول أن تنسى حلمك أن تنجب أطفالًا ذكورًا لأنك لن تخرج من هذا السجن للأبد"، فقد حكم عليه بالمؤبد 27 مرة.
عام 2012م قررت زوجة الأسير "الزبن" خوض معركة قاسية، لكنها لم تكن في نظرها أصعب من أن يضيع عمر زوجها خلف زنازين المحتل، وأن يذبل ربيع عمرها بالانتظار، هي معركة الإنجاب عن طريق النطف المهربة، فأقنعت زوجها بذلك، يقول "الزبن" للقدس 360: "أم مهند هي شريكة جهادي ونضالي، كانت الأم والأب لأطفالي، وأنجبت بفضل الله وإصرارها طفلين عبر النطف المهربة وأنا أدين لها لآخر لحظة في حياتي".
نجح الزبن في تهريب نطفة من زنزانته، وأنجب أول سفير للحرية في فلسطين، سماه "مهند" تيمنًا باسم صديقه ورفيق دربه في الجهاد "مهند الطاهر" الذي ارتقى شهيدًا، بينما أُسر هو.
"لقد تحقق الحلم الذي قال لي القاضي عنه مستحيلًا ولعل من دواعي فرحي هو أن إنجابي ونجاح تجربة التهريب كانت بوابة أمل لكثير من الأسرى، حيث ولد أكثر من مائتي سفير للحرية بعد مهند".
شعر الأسرى يوم ميلاد "مهند" أن هذا انتصار لهم جميعًا، حيث انتزاع الحق من المحتل الذي يريد لأعمارهم أن تضيع، ولأحلامهم أن تنكسر داخل نفوسهم فيوئدها النسيان والقهر داخل الزنازين، يقول: "أمّا الشعور فلا يُكتَب بالكلمات وحسبي أنّي لحظة تهريبي للنطفة قد حرّرتُ جزءاً من روحي وجسدي خارج الأسر، وها هم أكثر من مائة من إخواني الأسرى أنجبوا رغم أنف المحتلّ".
اعتقل "الزبن" لدى عودته من الأردن، فقد كانت المرة الأولى التي يغادر فيها فلسطين، لمدّة خمسة أيّام فقط، يقول: "لم أكن أدري أنّ العدوّ قد أمسك بطرف خيطٍ يقود إليّ"، ويضيف: "لعل من أقسى أيام سجني هي أيام التحقيق، حيث استخدموا معي أساليب التعذيب القاسية ككسر الظهر أو أسلوب الموزة، والخنق دون قيود، إضافة إلى الشبح والمنع من النوم لأيامٍ عدّة وصولاً للهلوسة".
امتد التحقيق مع "الزبن" لمدة شهرين، حتى انتهت بستّة وعشرين مؤبداً وخمسة وعشرين عاماً بتهمة المشاركة في التخطيط والتنفيذ لعدّة عمليات للمقاومة في إطار "كتائب القسّام"، أبرزها عمليّتا سوق محني يهودا وشارع بن يهودا في القدس المحتلة، حيث قُتِل فيهما عشرون صهيونيًا وأصيب المئات، وفي عام 2014م زاد المحتل على حكمه عامين إضافيين بتهمة تجنيد مجاهدين لأسر جندي.
كلمات تجوب العالم
عاش "الزبن" حريته خلف قضبان السجون، وانتزع حقه بطفل من صلبه عبر النطف المهربة، وانتزع حريته في الحياة مرة أخرى حين قرر إصدار رواياته الأدبية داخل زنزانته، حتى جابت كلماته العالم وسمع صوته آلاف القراء، فأصدر قرابة الخمس روايات شارك بها في معارض كتب دولية، ووزعت في أكثر من ست دول.
أصدر "الزبن" روايته الأولى "عندما يزهر البرتقال"، يروي فيها قصة والدة الشهيد أسيل عاصلة، والذي ارتقى في هبة أكتوبر بداية انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠م، حين كانت تقف على التلة تبحث عن نجلها بين الناس.. والذي ميزته وعرفته من سترته الخضراء، وعندما أطلقت الشرطة الرصاص عليه كانت تركض باتجاهه وأطلقوا عليه الرصاص قبل أن تصله.
أما الرواية الثانية "من خلف الخطوط"، فهي تسرد قصة أسر الجنديّ نحشون فاكسمان عام 1994م، بثوب ثقافة تحرير الأسرى، وأخيرًا رواية "الزُّمرة" عن خمسة من نخبة القسّام مكثوا أربعة عشر يومًا تحت الأرض في الحرب الأخيرة على القطاع عام 2014م، في ظروف مُستحيلة، حتى حانت ساعة الصفر وأحدثوا مقتلة في صفوف العدو.
كما أدرك أن الطريق إلى القدس لا تكون إلا بالعلم، فكان من الأسرى الذين أعادوا الحياة العلمية للسجون بعد انهيارها وانعدامها، كما أدخل إلى السجون برنامج الدبلوم والبكالوريوس، بعد أن أصدر المحتل الغاشم حكمًا بإيقاف الدراسة عبر الجامعة العبرية المفتوحة، فقد أنهى عامين من الدراسة فيها ثم انتقل إلى الدراسة في جامعة القدس أبو ديس.
قبل عشر سنوات أرسل "الزبن" رسائل مؤثرة عبر رسالة ورقية خرجت من الزنزانة مع أسير محرر فقد كانت: "للقدس: أعتذر لك، للمقاومة: أنتم الأمل، لكتائب القسام: رأس الحربة في معركة التحرير، لزوجته: أنتِ سيّدةُ العالم، لأولاده: سامحوني على الغياب، لأُدبَاء التطبيع: ستدوسكم عجلة التاريخ، للأسرى: سيصبحُ السجنُ ماضيًا".. يختم "الزبن" قائلًا: "فعلًا .. في سماء الحرية أنا الآن.. أرى السماء بلا شبك وقد أصبح السجن ماضيًا".
ختمت "بيسان" حديثها: "كما قال القاضي لبابا لن تنجب أطفالًا ولن يكون من صلبك طفلًا تسميه مهند وقد خابت مخططاته، ستلتقي عائلتنا ذات عيد، وستكون رسمة العائلة المتكاملة التي قضيت طفولتي أرسمها في خيالي وعلى الورق حقيقة أمام عيني .. فلن يطول قهر المحتل".