تقارير

في القدس.. حِرفٌ أبًا عن جد

وسط كومة مفاتيح صدئة وقطع نحاسية قديمة يجلس الحاج محمد عبد الجواد في حانوت قديم، تصل إليه حين تمشي في الممر الأخير بسوق «الخواجات» في البلدة القديمة للقدس المحتلة.

مفاتيح أثرية قديمة تلفت انتباهك، وتصيبك بالدهشة حين يروي حكايتها الحاج "محمد عبد الجواد" ويخبرك بأنها مفاتيح لأبواب سلبت في النكبة عام 1948م أو النكسة عام 1967م، وأيضًا لأبواب بيوت مقدسية جُدِّدَت إلى أبواب حديثة.

المفاتيح التي تتدلى في سقف الدكان الأخير للنحاسة في القدس تغيظ الجنود وهم يعربدون في سوق البلدة القديمة، فيعيثون فسادًا في الدكان الذي يسرد رواية الحق بالأرض والبيوت التي سُرقت من أهلها الأصليين.. يكسرون محتوياته وينكلون بأصحابه.

"الدكان الأخير" يقولها الحاج "عبد الجواد" بسعادة وتوجع في الوقت ذاته، فهو آخر النحاسين في المدينة القديمة، فقد حمل مهنة أجداده في قلبه ورفض التخلي عنها، بينما يوجعه أنه صاحب أحد المحلات النادرة في سوق الخواجات، فقد أغلق المحتل  أغلب المحلات فيه، وفرض ضرائب باهظة على أصحابها.

كان الحاج "عبدالجواد" يلمع قطعة نحاسية حيفاوية، حين أخذنا عبر منصة "القدس 360" في رحلة قديمة، يحدثنا فيها عن حرفة النحاسة التي بدأت بالانقراض، بينما يتمسك بها منذ خمسين عامًا، تلك المهنة التي تعلمها من أبيه، والذي بدوره تعلمها من جده.

تحدٍ رغم النكبات

رغم محاولات الاحتلال من تفريغ المدينة من عراقتها الفلسطينية وملامحها التراثية والتاريخية وسعيه إلى تهويدها، إلا أن تمسك "عبدالجواد" بمهنة أجداده ودكانه كانت أقوى من السياسات كافة، يقول: "وجودي هنا تحدٍ لسياسات الاحتلال وعنجهيته، حيث أغلق أكثر من عشرين محلًا في البلدة القديمة في انتفاضة الأقصى عام 2000م إلا أنني صمدت وواجهت المر لأحافظ على بقاء التراث".

منذ شقشقة الصباح يتوجه الحاج "عبدالجواد" يفتح دكانه ليمارس مهنة النحاسة، يجدد الأواني النحاسية ويصلحها ويلمعها ويعيد صيانتها، وفي الظهيرة يذهب لعمله حارسًا في المسجد الأقصى حتى المساء.

بسعادة بادية على صوته يحكي "للقدس 360" كيف يصطحب ابنيه منذ صغرهم في إجازاتهم الصيفية والأسبوعية إلى دكانه يعلمهم مهنة النحاسة، حتى لا تنقرض بعد مماته، رغم أن اهتمامات الجيل الحديث مختلفة، ورغم أن التكنولوجيا اجتاحت عقولهم وغزت قلوبهم.

كانت البيوت القديمة في القدس تمتلئ بالأواني والأدوات النحاسية، أما الآن يشترون النحاسيات كديكور للجلسات العربية التراثية فقط، يقولها الحاج "عبدالجواد" حزينًا.

حرف مقدسية عتيقة

وأنت تتجول في البلدة القديمة، تتحدث العراقة والعتاقة على أبواب الدكاكين القديمة، وبين أزقتها ترى نفوسًا مقدسية تقاهر المحتل للحفاظ على تراث الآباء والأجداد، بحرصهم على حرفٍ لم يسمحوا للمحتل أن يغيبها بالطمس والاندثار.

فلم تكن حرفة النحاسة هي الوحيدة التي حافظ عليها أهل القدس أبًا عن جد، فهناك حرف يدوية كثيرة حافظوا عليها، كتغليف ورق الزيتون بالفضة والنجارة والخيزران والقش والحلاقة والكروشيه وصناعة الصابون والتطريز، كما تتجلى العراقة بالخزف الأرمني والنقش عليه إحياءً للفنون القديمة وتقليدًا لقطع أثرية قديمة بجمالها ودقتها، باستخدام ألوان لتزيين المصنوعات الخزفية.

منذ 45 عامًا، يتمسك المقدسي زياد الضبة صانع أثاث الخيزران الوحيد بالقدس بمهنته يطوع من خلالها عيدان الخيزران في صناعة الخزائن وأسرة الأطفال وغيرها، ولخوفه من اندثارها بعد رحيله.. يعلمها لأطفال القدس في مدرسة الأيتام.

النقش على خشب الزيتون أيضًا يبهر السياح في أزقة القدس، حيث يصنع منها المقدسيون الهدايا والتحف وأدوات الكتابة والزينة ولعب الأطفال، وهدايا ذات رموز دينية يصنعها أهل القدس المسيحيون من طوائف مختلفة، عدا عن صناعة الشموع التي تجذب السياح الذين يشترونها تبركًا بها كونها مصنوعة في بيت المقدس.

رسالة للاحتلال

عقبات كثيرة يواجهها الحرفيون اليدويون في القدس، تعيق توسعة عملهم ونشاطهم التجاري، كرفع الاحتلال للضرائب وتعددها، وتأثير وكلاء السياحة وعدم استقرار الأوضاع السياسية، وارتفاع أجور الأيدي العاملة في القدس.

ورغم كل العقبات وتوالي النكبات فإن أهل القدس يعدون أن الحفاظ على المهن والحرف مقاومة من نوع خاص، ورسالة للاحتلال الذي يسعى دومًا إلى طمس كل ما هو قديم ليُفقد المدينة معالمها العتيقة، لا سيما بعد إغلاق 1400 محل في البلدة القديمة منذ عام 1967م.

فلا يكون نضال البقاء في محالهم التجارية جيلًا بعد جيل للحفاظ على المهن الخاصة بهم فحسب، بل إن ذلك يحافظ على وجودهم في المدينة المحتلة في ظل محاولة الاحتلال لتهويد كل ما هو فلسطيني.

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى