على عتبات "الأسباط".. هبَّ شباب القدس انتفاضًا لها
تراكمت الحسرات في قلبه!! يافا المحتلة خريطة أحلامه، ضياء التلاحمة رفيق دربه، وأخيرًا القدس، العتبة الأولى لأمنياته، وأول درجة في سلم الحرية الي يأمل صعوده..
مهند الحلبي، ابن القدس والذي لا يقبل بتعريف نفسه إلا بها.. من مدينة البيرة برام الله، هُجر أجداده من مدينة يافا عام النكبة 1948م، ومن يافا إلى القدس سكنت الحسرة قلبه، فكيف به يسمع بشاطئ يافا ولا يلمس رمله قدميه؟! وكيف به لا تطأ خطواته أبواب القدس إلا بتصريح من جندي جبان يقف أمام البوابة الإلكترونية كي يقرر بالسماح له أو يرجعه والحسرة تأكل من قلبه الكثير!! هذا المحتل نفسه الذي حرمه من رفيق عمره "ضياء التلاحمة"!!

على باب الأسباط ولأجل الأقصى قدم ضياء روحه، وفي سرادق عزائه قبَّل صديقه "مهند الحلبي" رأس أبيه، ووعده بألا يمر عام على قتل المحتل الغاشم لضياء إلا وقد ثأر له!! ليكون ابن التاسعة عشر رجلًا مقدسيًا كلمته كالسيف لا رجوع فيها!

ثأرٌ للقدس
في الثالث من أكتوبر عام 2015م، ودع مهند عائلته، قبَّل أمه وشقيقه الصغير وأهداه "مجسمًا صغيرًا" لخارطة فلسطين، ثم عاد لتقبيلهم مرارًا، ما أثار استغراب الأم ولكنه لم يبُح لها بشيء؛ حتى لا يتراجع بسبب دموع أمه، وكي تبقى الثورة بداخله مشتعلة لا تنطفئ بعاطفته تجاهها، واتجه إلى القدس دون أن يخبر أحدًا.
كان يدرك "مهند" أن باب الأسباط هو بوابة للفاتحين قديمًا، فقد ضمر في نفسه أن يفتح عبر هذا الباب الطريق أمام الشباب الثائر الذي يكتم مشاعر القهر في قلبه حين يرى عربدة جيش الاحتلال قبالة أخواتهم وأمهاتهم في القدس!
وصل "الحلبي" باب الأسباط فطلب من أحد التجار المقدسيين هناك "ولاعة" فاستغرب التاجر طلبه، وسأله عن أحوال البلدة القديمة هل هو هادئ في ذاك اليوم أم لا.. تبادلا أطراف الحديث ومضى.
وما هي إلا دقائق حتى سمعت البلدة القديمة صراخ الجندي الذي طعنه "مهند" بسكينه، وبكل هدوء وثقة أخذ مسدسه ولاحق المستوطن الثاني وأطلق النار عليه ، ليفجر "مهند" بعمليته البطولية "انتفاضة القدس"، التي عرفت بـ"انتفاضة السكاكين"، ثم انطلقت العمليات البطولية في الضفة والقدس المحتلتين، حيث تمكن منفذو هذه العمليات من قتل عدد كبير من جنود ومستوطني الاحتلال الإسرائيلي بالدهس أو بعمليات الطعن أو من خلال إطلاق النار.
والدة مهند "سهير الحلبي" كانت ضيفة الحوار مع منصة القدس 360، تقول بفخر: "كل عمل بطولي أرى أثر مهند فيه، فقد كان مفجر الثورة التي أعادت للقدس مجدها، وروت عطش أمهات الشهداء الذين ثأر لهم مهند ورفاقه الأبطال من بعده"، ويبدو على صوتها الحزن حين تقول: "استشهد مهند وهو يتمنى أن يزور يافا، فقد كان مولعًا بتاريخها وبحرها ويقضي وقتًا طويلًا يسمع عنها ويتابع حكاياتها ويحفظ تفاصيلها".

"يوم العملية كان مختلفًا".. هكذا تبوح والدة "الحلبي" في حديثها، فقد حمل في ساعاته مشاعر أم فخورة بابنها البطل، كما الحزن الذي سيطر على قلبها لفراقه، تختم حديثها أن الشهداء في فلسطين يولدون مرة أخرى، حيث رزقت بطفل أسمته باسمه، عله يحمل اسمه وصفاته!
عن باب الأسباط الذي اختاره "مهند الحلبي" ليفجر الثورة في وجه المحتل.. تحدثت منصة القدس 360 مع الشيخ "عبدالكريم زوربا" إمام المسجد الأقصى لمدة 46 عامًا، ابتدأ حديثه: "باب الأسباط من أهم أبواب المسجد الأقصى والمدخل الرئيس إليه على مر العصور، كما أصبح ساحة لاعتصام الفلسطينيين الرافضين لإغلاق المسجد من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ووجود البوابات الإلكترونية".
بابان متجاوران يحملان اسم "الأسباط"، الأول في سور البلدة القديمة، ويؤدي إلى طريق طويل تسمى طريق المجاهدين أو درب الآلام، والثاني هو أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك العشرة، يكمل "زوربا": "له أسماء كثيرة كـ"باب الأسود"، و"باب القديس اسطفان"، و"باب أريحا" و"الغور"، أو باب "ستي مريم"، والمقصود بالأسباط هم "أبناء النبي يعقوب الاثني عشر عليهم السّلام".

وتكمن أهميته أن زائر القدس من خلاله لا يحتاج أن يمر عبر الحارات السكنية أو الأسواق القديمة، فالداخل عبر باب الأسباط الذي يقع في سور القدس، يلتفت يسارًا فيصل إلى ساحة صغيرة تسمى "ساحة الغزالي" ثم يصل مباشرة إلى باب الأسباط أحد أبواب الأقصى.
يصف الشيخ "زوربا" عمرانه قائلًا: "على الواجهة الشرقية له زخرفات معمارية بارزة، وعلى طرفي الباب قوسان، وما يميزه عن باقي الأبواب وجود أربعة أسود أو فهود، يزين كل اثنين منهما طرفي الباب، عن يمينه ويساره، والتي اتخذها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس رمزًا له.
ميدان الاعتصام والثورة
وفي سطور التاريخ سجل باب الأسباط سطورًا لا تُنسى حين يذكر مجد القدس، فعلى طرفه تحتضن مقبرة الرحمة رفات عدد من المجاهدين الذين شاركوا في الفتح العمري والفتح الصلاحي للمدينة، كما دفن فيها الصحابيان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس.

ويكمل "زوربا" حديثه: ""كما برز باب الأسباط في التاريخ القديم، فإنه رسَّخ في أذهان المقدسيين ذكرى مؤلمة، فمن خلاله اقتحمت الدبابات الإسرائيلية وقوات المظليين بلدة القدس القديمة، في العاشر من يونيو/حزيران 1967، معلنة سيطرتها على المسجد الأقصى المبارك".
ومنذ عام 2017م أصبح باب الأسباط ميدانًا رئيسًا لاعتصام الفلسطينيين في القدس، احتجاجًا على إجراءات المحتل العنجهي بحق أهل القدس والمسجد الأقصى كإغلاقه أمام المصلين والاعتداء على المرابطين ومصاطب العلم، ووضع بوابات إلكترونية على أبوابه، والتي أزالها المحتل بعد رفضهم واحتجاجهم.

في كل عامٍ.. تنتظر أم الشهيد مهند الحلبي رمضان بفارغ الصبر كي تحصل على تصريح لزيارة القدس، تقف قبالة باب الأسباط، هناك.. حيث تشتم رائحة مهند وتتخيل بطولة ابنها كمشهد أمامها وهو يسل سيفه من غمده، لأجل نساء الأقصى المرابطات اللواتي اعتدى عليهن جيش الاحتلال.
وهناك.. أمام عظمة باب الأسباط فجر ابنها انتفاضة في قلوب شباب القدس كي يثأروا لها وينالوا حريتهم فيها، تمامًا مثلما كان يراه "مهند" بوابة الطريق إلى القدس وسلم العودة إلى يافا !