تقارير

على درب الشهيد "أبو ربيع".. أيادٍ غزية تضمدُ جراح الأرض

آمن أن الأرض تحب أهلها، وكان يثق أنها لن تتركهم أرض غزة لجوعهم وقهرهم.. أسرَّ لصديقه: "سأحاول استخراج نباتات من بين الركام"، فاتهمه بالجنون وتجاهل اتهامه، ووثق أن بيت لاهيا لا تلفظهم أبدًا!
هو ابن مدينة بيت لاهيا العشريني "يوسف أبو ربيع" الذي يراها منذ طفولته أن العزاء فيها سرادق واحد كبير يضم وجع قلوب أهلها جميعهم، فمن يطأ قدماه هذه البلدة يعلم تمامًا أنه دخل بيتًا واحدًا لعائلة واحدة.. فالفرح واحد والحزن كذلك!

زرعٌ بين الركام
"هنزرعها" هتاف قلبي كان بداخله منذ أيام الحصار الأولى.. إلا أن صرخة جاره الذي عصف بأطفاله الجوع كباقي أهل المدينة فمات أحدهم من قلة الطعام كانت كصفعة قوية أخرجت كل مشاعر تعمير الأرض بداخله، فصدح به بصوت عالٍ لكل شباب بلدة بيت لاهيا.. وانتشر برفقتهم بين الركام.. يمشون بين البيوت ويحاولون إخراج البذور والنباتات، وبعد أيام وجدوا ضالتهم حين عثروا على بذور الملوخية بين البيوت المدمرة وما بين سقوف قد أطبقت على أحبابنا..

عدَّ "أبو ربيع" والشباب إعادة إحياء الأرض مقاومة، حيث رأى أن أكثر ما يغيظ الاحتلال تعمير الأرض الذي يسعى إلى تخريبها، فأراد إنعاش شمال غزة وتحقيق الاكتفاء الذاتي، فقد أغلق عليه المحتل جدرانًا من أربع جهات ليخنقهم ويميتهم جوعًا.. لا سيما أنه قهرهم انتهاء موسم الخبيزة التي كان يأكل منها أهل الشمال إلى أن نفد فزرعوا الجرجير والكوسا والملوخية.
كان "يوسف" كما يقول والده لمنصة القدس 360 مهندسًا زراعيًا، حيث اشتهر هو وعائلته بزراعة الذهب الأحمر "الفراولة" التي تصدر لكل فلسطين وبلاد أخرى من أراضي بيت لاهيا، يكمل والده المكلوم لفراقه: "تعلم مني يوسف منذ صغره كيف تستنبت البذور وتمنح الفسائل، وعلم الناس كيف يغرسون الزرع ويرعونه، فأصبح يرى أن كل التعب يهون أمام طفل تقرص معدته الجوع الذي فرضه الاحتلال على شمال غزة لشهور عدة".
وبكل ما أوتي من عزم وقوة، سعى "أبو ربيع" إلى الاستمرار في الزراعة رغم شح الماء والأدوات، ودعا كل من صمد في بيت لاهيا إلى الزراعة على الشرفات والأسطح والأراضي الفارغة حتى على الركام والبيوت المهدمة.
قاوم "يوسف" المجاعة بغرس الفسائل وبذور كثيرة، وكان يقول: "أحببت بيت لاهيا كما أحبتني، وأوجعني شكل الأراضي المجرفة التي اعتادت أن تغمرها الخيرات".
والد "أبو ربيع" يشعر بكثير من الفخر والرضا عن نفسه وأسرته التي تتوارث مهنة الزراعة جيلا بعد جيل، لا سيما حين نجحوا في استصلاح مساحات من الأراضي الزراعية رغم الدمار الهائل في مناطق شمال القطاع.
ويضيف والده في حواره مع منصة القدس 360: "نجح يوسف في تأسيس مشتل صغير أمام بيتنا في الحديقة المنزلية المدمرة، وزرع بها الفلفل والباذنجان ثم انطلق بالزراعة ومتابعة الأشتال ومحاولة الاعتماد على هذه النباتات كطعام رئيس، خاصة حين امتدت آثار الحرب إلى البنية التحتية الزراعية بالكامل، وطالت شبكات الري والمعدات والمخازن، ومزارع الإنتاج الحيواني".
بين أهالي بيت لاهيا نشر "أبو ربيع" مبادرة "ازرعها بين الركام"، وحين رآه المحتل الغاشم كيف يعمر الأرض ويضمد جراحها.. استهدفه بصاروخ مباشر فارتقى شهيدًا، حاملًا في صدره حب الأرض التي قهره خرابها.

على درب شهيد
وتنفيذًا لوصية الشهيد "يوسف أبو ربيع" أطلق شباب متطوعون مبادرة "ازرع الأول"، تلك المبادرات التي أرادوا بها إكمال مشواره لإعادة إحياء الأراضي الزراعية.. يقول مطلق المبادرة الناشط الإعلامي محمد أبو رجيلة في حواره مع منصة القدس 360: "أطلقنا المبادرة لزراعة 100 ألف متر مربع من القمح، في محاولة لتعويض النقص الحاد في الطحين بعد الأزمة التي عصفت بالقطاع"، ويضيف أنه حرص على تنفيذها كرد فعل على المجاعة التي فتكت بأهالي قطاع غزة بعد منع المحتل الغاصب إدخال القمح والمواد الغذائية الأساسية، كما يرى "أبو رجيلة" أنها رسالة تحدٍ للاحتلال أن أرض غزة لا تستسلم للخراب!


تحديات كثيرة أمام الشباب الذين يحاولون إعادة زراعة الأرض، يكمل حديثه: "أكبر التحديات وأصعبها تتعلق بصلاحية الأراضي الزراعية، فقد تعرضت للقصف المدمر ما يجعلها تحتاج إلى فحوصات متخصصة للتأكد من خلوها من المواد الكيميائية والسموم التي استُخدمت في الحرب، وتؤثر على جودة المحاصيل وتجعلها غير صالحة للاستهلاك"، أما التحدي الثاني فهو النقص في المعدات الزراعية الثقيلة، مثل الجرارات والحفارات، التي تسهم في إعادة تسوية الأراضي وتهيئتها للزراعة، عدا عن شبكات الري المدمرة من القصف ونقص المختبرات الزراعية المتخصصة.
عاد "يوسف أبو ربيع" إلى الأرض، ليس نازحًا بل عودة أبدية، شهيدًا محبًا عاشقًا لأرض منحته الخير فمنحها روحه، رحل وهو يحمِّل شباب "بيت لاهيا" أمانة تعمير أرضها من جديد كلما عاث فيها المحتل فسادًا، لأن تربها لن يموت! رحل وهو يردد: "فاتورة عشقي للأرض قد تكون باهظة وثمنها دم"!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى