تقارير

عدسةُ أم

قصة الصحفية مريم أبو دقة

ذاك اليوم الجمعة، لم يكن يومًا عاديًا في بيتنا منذ أن بدأت مسيرات العودة..

كنتُ على حدود خانيونس، أحمل الكاميرا والمايكروفون وأوثّق حب الثائرين وشوقهم لأراضينا المحتلة ما بعد السياج.. أخي "مجاهد" بين سيارات الإسعاف يطبّب الجرحى، وأخي محمد في صفوف الثائرين.

في صباح ذلك اليوم، لم تملك أمي أن تقول لنا شيئًا سوى وصيتها المعتادة التي كانت تهمس بها كلما خرجنا: "ديروا بالكم على بعض"..لكن محمد، في تلك الجمعة، قالها بصوتٍ يختزن شيئًا من الوداع، وبنبرةٍ أثقلتها الغصة:

"ديروا بالكم على حالكم يا إخواني."

وبعد ساعتين من التغطية كنت أستعد للبث المباشر عبر قناة الفجر، أضبط صوت المايكروفون، حين جاءني زميلي بخبر عاجل: "ارتقى شهيدان.. دقيقة وسنعلن الأسماء"...

ارتجف قلبي من الداخل، بينما خرج صوتي على الهواء ثابتًا: "ارتقى شهيدان، دقيقة وأوافيكم بالأسماء".

وفي اللحظة ذاتها، مرّ أمامي جثمان شهيد.. نظرتُ إليه وبكيت كثيرًا، كان جسده ممزقًا، وجهه مشوهًا، فاشتعلت جمرة في قلبي. تمتمت: "يا الله.. كيف أهله بدهم يودعوه هيك؟"

لم أكن أعلم أن "أهله" هم نحن.. ولم أتخيل أن الشهيد الذي مرّ بجانبي، جسدًا محمولًا، كان أخي محمد، لم أعرفه من تشوه وجهه، حتى أعطاني زميلي ورقة مكتوبًا عليها الاسم: "الشهيد محمد أبو دقة".

منذ ذاك اليوم الذي ودعنا به محمد، لم تغادرني كلمات طفلته "لانة" ، وهي تهمس بعد رحيله: "حيزعل مني بابا؟ خفت أقرب عليه.. خفت منه كتير.. حيزعل؟"

اخترقت قلبي كلماتها الصغيرة كرصاصة قاتلة! فكيف تفهم طفلة في التاسعة معنى الندم وهي لم تزل على أعتاب الطفولة؟ فقد كانت تبكي لأن قلبها خاف من رؤية وجه أبيها المشوه! ربما أرادت أن تحفظ صورته كما عهدته، لا أن تسجن في ذاكرتها ملامح الموت..

وحين اندلعت حرب الإبادة على غزة، كان قلبي يتمزّق مع كل طفلةٍ تنحني على جثمان أبيها، ومع كل أمٍ يئنّ صدرها بالنحيب وهي تودّع فلذة كبدها.. كنتُ أرى المشهد وأرتجف: "ماذا لو كان ابني الوحيد "غيث" مكان تلك الطفلة"؟ بعدها اتخذتُ القرار الأقسى في حياتي: أن أبعده عن نيران الحرب، أن أرسله بعيدًا عن الموت، ليحيا بأمان، فسافر إلى الإمارات، أما أنا.. فقد أبَيتُ الخروج، فكيف أسافر وكاميرتي التي لم تُطفأ يومًا أمام وجعٍ في غزة، ستُطفأ الآن وهي تنزف؟!

إنني أعترف.. لم أغلقها إلا مرةً واحدة.. حين وقفتُ أمام أمٍ مفجوعة، تصرخ فراق وحيدها الذي جاءها بعد اثني عشر عامًا من الانتظار، ثم رعته حتى صار فتىً في التاسعة عشرة.. يومها انهمرت دموعي، وضعت الكاميرا على عيني حتى لا يراني أحد باكية.. كانت مغلقة للمرة الأولى، لكن جرحي كان مفتوحًا على مصراعيه.

أوجعني المحتل في عائلتي.. فقدت أمي في يوم حالك من أيام الحرب، ولكنني أيضًا لم أغلق الكاميرا! بقيت عدستي بين الركام وشلال الدماء الذي ينزف في مدينتنا ولم يتوقف منذ عامين، ومرض أبي مرضًا شديدًا، ولم أتردد أن أمنحه كليتي، أما أنا فأتعبتني الحياة بعد فقد أمي وسفر وحيدي ومرض أبي!

وفي لحظة شعرتُ أن الموت يطوف حولي، كتبت وصيتي وخبأتها في قلب صديقتي،

"إلى غيث..ابني الوحيد، أبعدتك عن الحرب لأجل أن تحيا، فاحمل حياتي في قلبك وسم طفلتك على اسمي حين تكبر"، أما عائلتي، نصف قلبي الآخر: "سامحوني إن رحلتُ قبل أن أُقبّل جباهكم، لقد اخترت الكاميرا لأنني اخترتكم"!

ثم في ركنٍ ضيّق من مستشفى محاصر، وضعتُ كاميرتي جانبًا، مسحتُ عرقي الممزوج بالغبار والدموع، وحدّقتُ في صديقتي بصوتٍ مبحوح:

ـ"مطوّلين"؟

ابتسمت لي ابتسامةً شاحبة، وقالت بصوتٍ متماسك: "آه، ستُفرج"

لكنني رفعتُ حاجبيَّ، إشارةً صامتةً أعرف أنها ستفهمها:

"لا… مش مطوّلين"

لم نطل كثيرًا

فبعد يومين

كسروا كاميرتي

قتلوني أمام العالم الصامت

على البث المباشر

أوجعوا أبي

الذي يحمل جزءًا

من جسد ابنته البارة

وقتلوا حلم "غيث"

أن يكون زميل أمه

رحلتُ

ولكنني باقية

وفي كل جرح كنت عليه

شاهدة

في كل صورةٍ وُقع عليها:

"تصوير مريم أبو دقة"!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى