تقارير

طفلاتٌ مشوهات.. بتلاتٌ محروقة من رعب القصف!

تجاهلت "لانا"  أزيز الرصاص الذي لم يخفت صوته ليلتها، وكعادتها انزوت في زاوية من زوايا الغرفة، وراحت تسرح شعرها وتلبس الفساتين المبهجة التي خبأتها لأعيادِ ما بعد الحرب كما تخطط، بعد أن أنهت لتوها رسم البحر وغزة والمدرسة قبل الحرب!

اشتدت الأحزمة النارية فجأة.. فتكومت العائلة في زاوية واحدة يمسكون بأيدي بعضهم، تمامًا مثلما اعتادت العائلات في غزة أن تجلس في مكان واحد حين يشتد القصف حتى إن رحلوا رحلوا جميعهم فلا يتحسر أحدهم على فراق الآخر، وبدأت الأم تهدئ من روع أطفالها وتخفف عنهم لحظات الرعب!

وبينما كانت تحاول الأم تشتيت أذهانهم عن صوت الطائرات الحربية المرعب، دوى صوت قصفٍ زلزل قلوب الأطفال والكبار، حيث سوى المحتل الغاصب العمارة المجاورة لبيتهم بالأرض بعد استهدافها بصواريخ مجنحة، تقول والدة الطفلة "لانا الشريف" لمنصة القدس 360: "لا أستطيع وصف الصوت المرعب والصرخة التي أصدرتها لانا، فقد أصابها الرعب بكل ذرة فيها".

طفولةٌ تشيخ

صمتت "لانا" ليومين كاملين، رغم محاولات العائلة أن تعود لحالتها الطبيعية، لكنها استمرت بالصمت والبكاء والارتجاف، تضيف والدتها: "كل محاولاتنا باءت بالفشل وبقيت لانا في حالة هستيرية من الرعب والبكاء وعدم الكلام، لنتفاجأ في اليوم الثالث بظهور بقع بيضاء على وجهها ثم انتقل إلى أنحاء جسدها، وبعدها بدأ الشيب يغزو رأسها رغم أن عمرها عشرة أعوام فقط".

عاشت "لانا" بعد هذا القصف نوبات فزع في النهار، وكوابيس مرعبة في الليل ، كما ولم تنطق سوى بجملة واحدة: "لم أعد جميلة، ولم يحبني الناس بعد الآن"!

تتساءل أمها كل صباح: "من يعيد لشعر لانا جماله؟ وكيف أقنع طفلتي أن الشيب في غزة ليس حكرًا على كبار السن؟ ومن يقنع الطفلة أن الرعب من القصف هو من حول نصف وجهها إلى وجه نصف أسود ونصف أبيض".

تبكي "لانا" أمام المرآة، ثم ترميها بعيدًا، وتصرخ: "أريد وجهي الجميل!" وتسأل أمها:

"متى سيعود شعري الأسود؟ كيف سيختفي هذا البياض من وجهي؟"

شخص الأطباء حالة "لانا" بالبهاق النفسي وهو مرض يصيب الإنسان جراء تعرضه لأزمة نفسية شديدة، والعيش في ظروف قاسية والتوتر المزمن والخوف المستمر، تمامًا كمئات الآلاف من أطفال غزة، حيث أخبر الأطباء والد "لانا" أنه لا يوجد علاج شاف بشكل نهائي للبهاق، يقول خلال حديثه مع منصة القدس 360  متوجعًا على طفلته: "يتم التخفيف من مرض البهاق بوضع الكريمات الموضعية كالكورتيزون أو مثبطات المناعة، والعلاج بالضوء، وجلسات الدعم النفسي، وللأسف كل ذلك غير متوفر في المستشفيات في ظل الأزمة الصحية التي يمر بها قطاع غزة".

تهرب "لانا" في خيمة النزوح الجديدة إلى الرسم كي تنسى ما حل بها، يتبلل الورق من دموعها تارة، وتمزق صور الطفلة الجميلة التي ترسمها تارة أخرى، وتلجأ للبكاء والصراخ وهي تقلب صورها القديمة على هاتف أمها، ومع كل نوبة خوفٍ جديدة، تتسع البقع، ويزداد الشيب، ويتعمّق الألم!

ضفيرةُ طفلة

لم تكن "لانا" وحدها.. ففي زاوية أخرى من خيمة أخرى تنزح بها الطفلة "سما طبيل" يختزن وجع طفولي لا يعرف للفرحة سبيلًا.. هناك، حيث تنتظر الطفلة سما ذات الثمانية أعوام أن يعود شعرها الذي تساقط من رعب القصف، أن تعود ضفيرتها السوداء وأن تخلع قطعة القماش الني تغطي بها رأسها كي لا يراه أحد!

فلا تتمنى سما هذه المرة أن يطول شعرها كما أميرات الديزني، بل كانت الأمنية هي أن ينبت شعرها من جديد!! أن تعود جدولتها التي تتباهى بها أمام صديقاتها ورفيقات الخيام والنزوح، فلم تتوقع يومًا أن تفقد شعرها بسبب نوبات الخوف التي تعرضت لها بسبب القصف الإسرائيلي.

أمنيات صغيرة تدور في خلد الطفلة الغزية "سما" صباح مساء.. وتتساءل باكية: "متى سينمو شعري يا ماما، متى سأسرحه مرة أخرى؟"

كانت سما نازحة برفقة عائلتها في المستشفى الإندونيسي حين اقتحمتها الدبابات المجنزرة فأصيبت بالرعب الشديد، وبعد ساعات بدأ شعرها بالتساقط حيث فقدت 80 بالمائة منه.. أما الآن فهي تنزح في خيمة أخرى منتظرة تحقيق أمنيتها.. أن تعود جدولة شعرها الجميلة!

لم يكن الموت أقسى ما طال أطفال غزة، بل أن يتحوّلوا إلى شيوخٍ في عمر الورد، أن يشيبوا وهم بتلات صغيرة تزهر للحياة، أن ينظروا إلى المرآة فلا يجدوا وجوههم... باحثين عن جمال سرقته الحرب!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى