"ضحى الصيفي".. حين تُشيع ضحكات العمر في تابوت واحد!
كانت "ضحى" تؤمن أن أثقل التوابيت أصغرها، فحين يشيع طفل إلى المقبرة، يعني أن الحياة سرقت من قلب أم ضحكتها وسببًا من أسباب فرحتها في الحياة، لا سيما في أيام الحرب القاسية.. فكيف بالأم الصحفية الغزية "ضحى الصيفي"!
في لحظة واحدة، فقدت "الصيفي" أمومتها وضحكتها بعد أن قتل المحتل الصهيوني أطفالها الثلاثة، لتتحول ثلاثة قلوب من بهجة حياةٍ إلى صور معلقة على جدران قلبها.. كما توقف نبض الحياة داخلها في دقيقة، أما أمومتها فقد شيعت في التابوت نفسه الذي ضم أطفالها!
تحدثت منصة القدس 360 مع الأم المكلومة، بعد تعافيها الجزئي من إصابتها وخروجها من قسم العناية المركزة، فقد قررت ضحى أن تكمل عمرها وهي تتحدث عنهم، حيث استهلت حديثها النازف: "أطفالي ليسوا أرقامًا، وأنا صوتهم لأبد العمر".
صوتٌ لا يُكتم
وكأن تعريف "ضحى" لنفسها بعد هذا الفقد اختلف، فقد عرفتها بقولها: "أنا الصوت الذي لا يُكتم رغم الجراح، شاهدة على الوجع، وناجية من مجزرة خطفت أطفالي الثلاثة: ريتال، ونور الحق، وأسامة، في لحظة واحدة من حضن الحياة، نجوت من الموت بجسدي المثقل بالجراح، لكنني أعيش كل لحظة بروح أمٍ مكسورة، تحفر أسماء أطفالها في الذاكرة والوجدان".
لم تعد تكتب "ضحى" كصحفية كما تقول، بل كأمٍ نكبتها الحرب، وكإنسانة تحمل قضية، وكصوتٍ يناضل ليبقى الوجع الفلسطيني حيًّا في ضمير العالم، تكمل حديثها: "رسالتي ليست فقط تذكيرًا بالفقد، بل نداء للضمير الإنساني: نحن لا نُقصف بالأرقام… نحن أسماء، ووجوه، وأحلام خُطفت بقوة الهولوكوست".
الدقائق الأصعب في حياة "ضحى" بعد أن قصفهم المحتل الغاشم فقلب حياتها رأسًا على عقب، حين استيقظت من الغيبوبة وشعرت بجسدها ثقيلًا، وفكها لا يتحرك، ولا تستطيع الحديث.. فعلى سرير المستشفى يومها أشارت "ضحى" إلى من حولها بحاجتها للكتابة، فحاولت الإمساك به وكتبت: "أولادي بخير؟"، فأجابتها أختها باكية: "عصافير بالجنة"!
صبح عيد الفطر 2025م كان مؤلمًا على قلب "ضحى"، فكيف بأطفالها الذين تعبوا من النزوح والرعب والخوف أن يمر يوم العيد عليهم حزينًا..حيث قررت أن تزور شقيقتها النازحة في مدرسة دار الأرقم، التي أخبرتها أن الوضع مقلق.
"كأن شيئًا يأكل بقلبي، أتردد تارة وأقرر الذهاب تارة أخرى، أخاف مرة وأرى الفرحة في عيون أطفالي فقررت ألا أكسرها"، وعند وصولنا حاولنا أن نشعر الأطفال بالعيد وأجوائه، وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث، ذهب الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة، فناداها ابنها الكبير يخبرها أن هناك طفلًا كسر شباك السيارة، ذهبت لتراه فوجدته خائفًا، فضحكت له وأعطته خمسة شواكل وقالت له: "أنت بطل لكن لا تلعب بجانب السيارة"، ثم عادت للجلوس مع شقيقتها.
تذكر "ضحى" تلك اللحظات جيدًا، صوت قوي اهتز قلبها له، وأصبحت السماء حمراء من نار الصواريخ، تروي ما حدث بتوجع: "أول إشي خطر ببالي ابني الصغير أسامة، خفت عليه واستودعته الله، رفعت إصبعي وتشاهدت: اللهم استرني فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك".
غارات المحتل الغاصب استهدفت المدرسة مباشرة، وقد امتلأت بأطفال يركضون ويمرحون محاولين سرقة فرحة العيد من أنياب الحرب، تقول: فقدت في الغارة: أطفالي الثلاثة ريتال أبو سنينة (13 عامًا)، ونور الحق (10 أعوام)، وأسامة (4 أعوام)، وشقيقتها وبناتها الثلاث، تكمل باكية: "سبعة أحبة رحلوا بلحظة واحدة.. كنت معهم ولم أستطع حمايتهم".
ليسوا أرقامًا
ليس الفقد فقط ما كان نصيب "ضحى" من وجع البلاد الذي لا ينتهي، فقد أصيبت ضحى إصابة بليغة أفقدتها القدرة على الكلام لفترة طويلة، كما أفقدتها الفلك السفلي.. تقول: "لشدة إصابتي وضعني الأطباء في اللحظات الأولى على قائمة الشهداء، كنت فاقدة للوعي ووجهي مشوه بأكمله".
رحلة العلاج التي تخوضها "ضحى" قاسية" بغياب أطفالها كما تصفها، حيث اجتمع بداخلها وجع الروح والجسد، فقد فقدت فكها السفلي، وأسنانها، وأُصيبت بيدها اليسرى إصابة بالغة، كما فقدت السمع بأذنها اليمنى وجزئيا باليسرى، تكمل: "خضعت لعدة عمليات، منها: عمليتان في اليد من ضمنها زراعة رقعة بيدي، وتركيب شريحة في الفك، وعلاج طبيعي مستمر للفك واليد، بينما ما أزال أعاني من كسور وعظام مفقودة في يدي، والآن تتطلب حالتي الصحية السفر للعلاج بالخارج، بما يشمل زراعة عظام وأسنان وعمليات تجميلية".
صمت ثقيل يصيب "ضحى" كلما تذكرت أحلام أطفالها المقتولة، ولكن سرعان ما تستجمع قواها وتخبر من حولها أن ابنها أنس كان يحلم أن يصبح مهندسًا، وأن أسامة لم يشق طريقه في الحياة إلا أسبوعًا واحدًا في الهدنة حين ذهب للروضة قبل أن تعود الحرب بأنياب أكثر شراسة، أما ريتال فهي ابنتها وشبيهتها وصديقتها كان بقلبها أحلام كثيرة مرهونة بانتهاء الحرب.. تختم حديثها مع منصة القدس 360: "نجوت لأحكي حكايتهم دفن أسامة دون رأس بسبب فظاعة الغارة، بينما ريتال لم نعثر منها إلا على جزء من يدها اليمنى فقط، أما نور فكان جسده كاملاً".
ووسط قساوة تفاصيل الفقد لا تنسى "ضحى" أن تخبر العالم أنها خلعت ثوب الحداد كي تحدث العالم عنهم وتكون صوتهم لأنهم ليسوا أرقامًا، فهي الآن تقاوم أن يختفي اسم أطفالها في زحمة المجازر!