Blog

"خريجو غرس".. قبعاتٌ صغيرة فوقَ أنقاض الحرب

قبل سبعة عشر عامًا، جلست الشاعرة الفلسطينية أمل أبو عاصي ترسم على الورق ملامح حلم كبير... لم يكن مجرد فكرة، بل مشروع عمرٍ تُنفق لأجله ليالي السهر وأيام البحث، تصممه بحب، وتحيكه بالصبر، وتغذّيه برؤية مختلفة… روضة غرس الحديثة، على نمط التعليم الياباني، حيث النظام والجمال والابتكار يصنعون عقولًا حرة وقلوبًا محبة.

كانت تحب غزة بكل ما فيها من حصار وحروب وتحب أهلها أكثر، لم ترَ فيهم ضحايا للظروف، بل نظرت إليهم أبطالًا يستحقون أن يعيشوا تجارب العالم كله وهم على أرضهم، حيث آمنت أن الطفولة في غزة تستحق بيئة تتسع لأحلامها، فأرادت أن تزرع جيلًا مختلفًا: مصلحًا، مبادرًا، واعيًا، قويًا، وطنيًا، جيلًا لا تحده الأسلاك ولا يخيفه الدخان.

حلم العمر

وبإصرارها.. تحوّل الحلم إلى واقع، وصارت "غرس الحديثة" أكثر من روضة… صارت حديقة للأمل، ومعملًا صغيرًا لإنتاج المستقبل، حيث يخرج الأطفال كل صباح بابتسامة واثقة، يرددون أناشيد الحياة وسط مدينة اعتادت على أصوات الإنذار.

بدأ معها ١٣٠ طفلًا في سبتمبر 2023م، يفتحون أبواب أحلامهم الصغيرة مع بداية عامٍ دراسي جديد. لكن الاحتلال لم يمهلهم طويلًا؛ فبعد شهرٍ واحد فقط، قصف الروضة فقتل حلمهم الجماعي. تحطّمت المقاعد، وتبعثرت الكراسات، وضاعت الضحكات، واستُشهدت الأمنيات قبل أن تكتمل. وتفرّق الأطفال بين سفرٍ قسري، ونزوحٍ مرير، وإصابةٍ موجعة

 

لم تكتمل حكاية حلم الشاعرة الفلسطينية أمل أبو عاصي حين افتتحت "روضة غرس الحديثة"…دمرت الحرب جدرانها، لكنها لم توقف رسالتها، فقد رفضت "أبو عاصي" أن تدفن فكرتها تحت الأنقاض والركام، فحملت حلمها إلى جنوب قطاع غزة، حيث خيام النازحين.

 هناك، جمعت الأطفال المهجرين من بيوتهم قسرًا، وحوّلت الخيام إلى صفوف، والساحة الرملية إلى ساحة أمل… وأمامها زرعوا النعناع والنباتات البسيطة، لتثبت أن الفكرة لا تموت ما دام في القلب إصرار، وأن التعليم يمكن أن يزهر حتى على أنقاض الحرب.

عنقاءُ غزة

وحين عاد أهل شمال غزة من نزوحهم في الجنوب، كان شغف "أمل" يسبق خطاها على طريق الساحل؛ تركض بروحها قبل قدميها لتعود إلى أحضان الحلم الذي وهبت له نصف عمرها، رغم أنها كانت تدرك جيدًا أنه صار رمادًا… لكنها كانت تعلم أيضًا أن تحت الرماد دومًا جمرةٌ قادرة على الإشعال من جديد.

منصة القدس 360 حاورت الشاعرة الفلسطينية "أمل أبو عاصي" للحديث عن الفوج الأول الذي تخرج قبل أسبوع على أنقاض روضة غرس الحديثة، استهلت حديثها: " حين عدتُ إلى الروضة، وجدتُ الطابق الأول ركامًا بالكامل، والأرضي منهكًا بدمار جزئي، كأن المكان يلفظ أنفاسه الأخيرة".

لم ترَ "أبو عاصي" بهذا الدمار النهاية، بل بداية أخرى، فرممته حجرًا حجرًا، دهنت الجدران وقصرت الأسقف، وبنوا فيه ما استطاعوا، وبدؤوا من جديد على أنقاض الروضة وأحيوها من جديد، تكمل "أبو عاصي": "كل من مرّ بالمكان كان يقول: "هذا مستحيل، لا يصلح أبدًا لإعادة البناء!" لكنني كنت أبتسم، فأنا أؤمن أن المستحيل كذبة اخترعها الفاشلون لتبرير هزائمهم، ما دمنا نمتلك يقينًا بالنجاح، فإن كل عوامل الحياة تتكاتف لتفتح لنا الطريق".

"لماذا بنيتِ غرس مرة ثانية؟" كان سؤالنا لها وهي تتحدث بكل شغف عن مشروع حياتها، فأجابت: "لأنها معركةُ بقاء وبناء، تتكاتف فيها الأمم لتنجح في تجهيلِ أبنائنا، وتحطيم قدراتهم وآمالهم، وتحويلهم إلى محتاجين يركضون فقط خلف المساعدات وطوابير الفرن وطوابير المياه، فجاءت غرس لتنتزعهم من براثن واقع موجع، إلى عالم مفعم بالحب، بالأمان، بالحنان، بالعطاء، بالصدق، بالتعاون، والدفء والمودة".

ترى "أمل" في مشروعها "غرس" أن رأس مالها وأعظم إنجازاتها ذاك الطفل الذي يمسك بيديه الصغيرتين قلمًا وكراسةً بدلًا من جالون الماء، وتلك الطفلة التي تضع يدها على قلبها مؤديةً قسم غرس، بدلًا من أن تمتد يدها إلى أواني التكية، وذاك الشبل الذي يتطلع بعينين براقتين إلى يافطة الحروف فيقرأ، ويقف أمام السبورة فيشرح، ويترأّس المنصة فيُلقي بجدارةٍ بدلًا من مطاردته طابور الفرن.

كان حفل التخرّج الأول لـ"روضة غرس الحديثة" مختلفًا عن كل احتفال؛ فقد أقيم فوق أنقاضها ورمادها، حيث حمل الفوج اسم: "أحلام فوق الركام".. تقول "أمل": "أسميته هكذا لأن أحلامنا أزهرت من جديد، ولأن الحياة تجرأت أن تنهض من قلب الموت.. فالعالم من الخارج يرى الروضة جدرانًا متشققة وأثاثًا مثقلًا بالجراح، لكنني وحدي أعرف حقيقتها: إنها مزيج من أحلام غزية صيغت بالإصرار، كأمّ غزّيةٍ قدسية في عطائها، طاهرة في أصلها، أبدية في أثرها، عنيدة فيما تحب، ووطنية إلى آخر المدى".

قبعاتٌ صغيرة ارتفعت فوق رؤوس الأطفال في ذاك الحفل، ورأتها "أمل" كأنها رايات نصرٍ صغير وسط الركام.. وصفتهم بفرح يغالب الدموع:

"أجمل ما في هذا اليوم أنني رأيتهم على المنصّة.. يلقون الشعر، ويؤدّون الدبكة الشعبية، ويستعرضون مواهبهم، ويقرأون القرآن بقلوب نقية... هنا، في هذا المكان، مارسوا طفولتهم كما ينبغي، بدلًا من أن يعلقوا في طوابير الخبز أو ينتظروا دورهم على أبواب التكية، هنا المكان الذي يليق بأطفالنا، وهنا يجب أن يكونوا دائمًا".

رحلة قاسية قبل الوصول

الوصول إلى هذا اليوم تم بعد رحلة طويلة من العناء تسبق حفل التخرّج هذا، أفصحت عنها "أمل" لمنصّة القدس 360 بملامح مؤثرة من يومياتها.. تقول: "معلّماتُنا يقطعن المسافات بأمعاء خاوية، يمشين ستة كيلومترات ذهابًا، وستة أخرى إيابًا، وكثيرًا ما تصل المعلمة وقد أنهكها الجوع وأتعبها الطريق، وتغادر وهي تكاد تترنّح من شدّة الإعياء… ومع ذلك، لم يتغيبن يومًا، بل كنّ حاضرَات في كل صباح، شامخات كأشجار زيتونٍ لا تنكسر، يزرعن الأمل في قلوب الأطفال كما يزرع الفلاح بذوره في أرضٍ عطشى، فتلك في نظرهن ليست مجرّد مهنة، بل بطولة خالصة، وصمود يليق بفلسطين".

مواقف كثيرة أوجعت "أمل" خلال هذه الرحلة، من أصعبها ذلك اليوم حين وقع قصف بجوار المدرسة، واستشهدت أمٌّ لإحدى طالبات الصف الأول، وكان بيتها قريبًا جدًا من الروضة. وجدت "أمل" نفسها أمام واجب ثقيل: كيف يمكن إبلاغ الطفلة بهذا المصاب الجلل؟ وهل سيتعامل الأهل معه بالطريقة الصائبة أم المؤلمة؟ عندها تكاتف الفريق النفسي كله، وتولّى مهمة إيصال الخبر للطفلة بأكبر قدر من التخفيف والاحتواء.. حاولوا أن يبسطوا الأمر، لكن الموت أعظم من أن يُبسط؛ هو صدمة لا يملك القلب الصغير طاقة لاستيعابها، وكل ما استطاعوا فعله هو التخفيف من وطأته على تلك البريئة.

ولم يكن هذا الموقف الوحيد؛ فقد كان بين أطفال الروضة طفلة استشهد والدها قبل التحاقها بالمدرسة، وكانت ما تزال في رحلة تعافٍ من الحزن.. ومع مرور الأيام، بدأت جراحها تنزف من جديد كلما رأت زميلاتها يغادرن مع آبائهن آخر الدوام، كانت تقف باكية عند الباب وهي تقول: "جيبولي بابا… بدي بابا يروحني... ليش هما عندهم بابا وأنا ما عنديش؟".

تختم أمل حديثها: "كان المشهد يعتصر القلوب، عندها تدخّلت الكوادر الشابة في الروضة، فتولّى "الكابتن" مرافقتها وتسليمها إلى أمها، ليمنحها شعورًا أن هناك من يسندها ويملأ ولو قليلًا من فراغ الأب في إطار العملية التعليمية التي تتجاوز حدود العلم، لتكون أيضًا حضنًا إنسانيًا يخفف من آلام الحرب".

وهكذا.. من بين الركام وفوق أنقاض الحرب، ولدت الروضةُ من جديد، لتقول للعالم: إن غزة، مهما جوع الاحتلال أهلها ودمر بيوتها وسلبهم حياتهم، قادرة أن تنهض وتخرّج أجيالًا لا تُهزم.

زر الذهاب إلى الأعلى