تقارير

حكواتيون في فلسطين.. "حتى لا تأكلنا الضباع"

كان شبيه جده ورفيقه، وريث حكاياه وتجواله.. فلاح مثله يؤمن أن الزرع أعظم عمل، وأن الشعوب التي لا تروي تاريخها.. ستأكلها الضباع في عصر الحداثة!

إرثٌ ثمين

هو حمزة ديرية، ابن قرية عقربا في ريف نابلس.. أدرك أن "موت رجل كبير" بمثابة إحراق مكتبة كاملة.. فرافق جده في الحصيدة ووقت قطف الزيتون، وفي مواسم الزراعة.. وكان يجول في البلاد كي يتعلم منه كيف تُروى الحكاية الفلسطينية!

كان يؤمن العقرباوي أن "الشعب الذي بلا ذاكرة ستنقض عليه ضباع الزمن الحديث وتسرق له تراثه وحكاياه، وسوف ينفلت تاريخه من عقول أبنائه، في ظل سرقة الاحتلال لكل ما هو فلسطيني، ومحاولة ترويجه في العالم على أنه "تراثُ إسرائيل".

في أزقة قرية عقربا.. بدأ حمزة "السياحة" كما أسماها هو وصديقاه اللذان تجولا معه فيها، يتعرفون على كل شبر من قريتهم، يرون تفاصيل بيوتها، يكتبون عن أزقتها، حاراتها، عادات أهلها، فقد كان يدرك "العقرباوي" أن إرث جده ليس ملكه وحده.. بل أمانة وُضعت في عنقه لينقلها لغيره.

فَتحتَ وطأة التكنولوجيا التي تجعلك تلف العالم وأنت جالسٌ مكانك.. اختار العقرباوي طريقًا آخر في فلسطين، من جنوبها إلى شمالها، حيث بدأ السير بتجوالات في مدنها وقراها، لا سيما المنسية منها والتي هودت بالكامل، ويروي حكاياها وتاريخها وجغرافيتها وعمرانها للشباب الذين أصبحت حياتهم تتقوقع أمام أجهزة تكنولوجية غازية للعقول والقلوب!

يصر استهلال حديثه عن جده الحكواتي معرفًا به: "جدي الحاج خضر الحمزة كان من أمهر الحكواتيين الفلسطينين، فقد كان يسرد تاريخ عقربا والقرى والمدن وعائلاتها ويصف مناسباتهم وقت الحصيدة وطلعة العروس والعودة من الحج".

لم تكن الحكايا وحدها هي التي ورثها "حمزة" عن جده، بل كان أسلوب السرد القصصي بطريقة سلسة لا يمل منها المستمع، ويصف جلساته معه: "كانت الدقائق معه تمر سريعة، وكنت أسمعه بشغف فهو السبب الأول في علاقتي مع التراث والتاريخ".

الحكاية طريقٌ للبقاء

عام 2006 بدأ العقرباوي رحلة جمع التراث والتاريخ وتسجيل المقابلات وتدوينها، فقد حصل على أكثر من مئة ألف وثيقة تتحدّث عن تاريخ فلسطين، وصور عشرات المواقع وجمعها في كتاب واحد.

"لماذا كانت أول الجولات في عقربا" يجيب على السؤال بلهجته الفلاحية: "حرصت على التجول في المنطقة لأنها مهددة بالمصادرة من الاحتلال والمستوطنين يحاولون تهويدها بأشكال التهويد كافة، كخربة الطويل وخربة يانون ومنطقة افجم"، وذلك محاولة لتعزيز الوجود الفلسطيني في ظل ممارسات وانتهاكات الاحتلال المستمرة ضد الأرض والإنسان كما يقول.

شارك العقرباوي في مهرجان "حكايا فلسطين" عام 2013م، فكانت له بوابة لمشاركاته في مجاورات الحكواتيين العرب في جرش عام 2015م، كما صبَّ اهتمامه في كتابة الأبحاث منها: "سرية عقربا في جيش الإنقاذ وزوايا الأولياء ومقاماتهم في عقرباء، ومشاريق نابلس في ثورة 1936-1939 م، وأصدر كتبًا كثيرة منها إطلالة المنبر: صفحات في سيرة إمام البلدة الشيخ سعادة حسن المراشدة".

أرشيفُ وثائق يزيد عن 100 ألف وثيقة تزين مكتبة "العقرباوي"، تغطي فترة زمنية أكثر من 150 سنة لتاريخ فلسطين"، ودراسات أخرى عن الفلاحة وعادات القرية والأولياء ومقاماتهم وحدود القرى والشخصيات وهويتهم وملابسهم وطعامهم، وتحمل نكهة الأرض وتفاصيلها"

قهر العقرباوي يكمن في سرقة الاحتلال لموروثاتنا، يقول: "ستأكلنا الضباع إذا فقدنا الذاكرة، فالاحتلال يسرق طبق الحمص وقرص الفلافل، والثوب المطرز والكوفية، والمواقع التاريخية والجغرافية ويهود كل ما هو فلسطيني"، أما الحكاية فهي تدحض رواية الاحتلال وافتراءاته عبر الزمن.

منذ سنوات طويلة، يعد العقرباوي دليلًا سياحيًا للمتجولين في فلسطين من جنوبها إلى شمالها، ومعبرًا عن سعادته العارمة عن أثر التجول في فلسطين يقول: "بعض المسارات مثل "وادي القلط" بات التواجد فيه أكثر فلسطينيًا بعكس الماضي؛ بسبب كثرة زيارة الوادي من الحكواتيين والمتجولين".

تجوالٌ على الأقدام

رافقت "القدس 360" تجوالًا للحكواتي "حمزة العقرباوي" في قرية "دوما" برفقة شبان وفتيات من قرى ومدن مختلفة في الضفة الغربية المحتلة، يقول مستهلًا حديثه: "ردة فعل المتجولين كانت مبهجة حين رُويت لهم الحكايات التاريخيّة والتراثيّة، فهم لا يتوقعون أنهم سيعودون لهذه التجوالات في عصر التكنولوجيا"، عدا عن أنهم دهشوا بمعلومات وقصص لا يعرفونها عن قراهم.

"بين المتجولين والأماكن تنشأ صلة وطيدة" كما تقول "حياة أنور" ابنة قرية دوما، وهي واحدة من اللواتي شاركن في تجوال "دوما"، تضيف: "في التجوال يروي لنا الحكواتي العقرباوي حكايات وطرائف تجعل بيننا وبين الأماكن علاقة خاصة، فهو ليس كما يعتقد البعض أنه حجر وجبل وسهل يتصفون بالجمود"، لا سيما وهم ينشدون: " حب الأرض وغنيها، غنيها بتغنيها وأحلى أرض بكل الأرض، الأرض اللي بنمشي فيها".

"حياة" أيضًا كاتبة فلسطينية تدون وتكتب عن القرى وقصص البطولات القديمة، تروي للقدس 360 قصة "أم فهيم وفرن الطابون" التي سمعتها من الحكواتي، تقول: "في أحد أيام ثورة فلسطين القديمة، وبينما كان الشباب المطاردون يبحثون عن بيت يؤويهم، كانت تقف أم فهيم دوابشة على باب بيتها، فبمجرد أن لمحتهم نادت عليهم بلهفة الأم الفلسطينية وخبأتهم وبواريدهم داخل فرن الطابون في حاكورة بيتها، ليمر الجنود ولم يعرفوا مكانهم، فخرجوا بعد ساعات يقبلون يديها، فقبلت سلاحهم وأحاطتهم بهالة الدعاء ومضوا".

كانت تحاول "حياة" أن تدون كثيرًا من المعلومات عن قرية "دوما" لا سيما بعد حرق الاحتلال لعائلة "دوابشة" فيها والتي تفاعل معها العالم على نطاق واسع، إلا أنها في كل مسار تتجول فيها تكتشف ان هناك معلومات في جعبة الحكواتيين لم تمر عليها تقول: " مثال ذلك أن "دوما" كانت مسرحًا للغزلان في فلسطين قديمًا قبل أن يقتلها الاحتلال ويلاحقها فلم تعد موجودة، كما أنها تسمى قلائد العنبر لأن موقعها متميز بين القرى المحيطة بها".

مرسالٌ بين الأجيال

بسعادة عارمة عبر "العقرباوي" في ختام حواره مع القدس 360 عن فخره بملهمه منذ طفولته، وملهم جده الحكواتي، هو جده السادس الحاج "خضر بن يوسف العقرباوي" الذي كان شافعيًا، له كتب ومخطوطات وجدها "حمزة" بعد مئات السنين في مكتبة الجامعة الامريكية، والآخر في متحف بغداد، أحدهما عن الفقه والآخر عن المذهب الشافعي.. وحين بحث عنه أكثر وجد له كتب السيرة الشعبية الفلسطينية كاملة باللهجة الفلسطينية الفلاحية عثر عليها في مكتبة بألمانيا، يقول ضاحكًا: "نحن عائلة حكواتية أبًا عن جد".

ختم العقرباوي حديثه أنه يحمل مسؤولية نقل إرث جده لجيل المستقبل، ويسرد لهم حكايا الأرض كي تنشأ بينهم علاقة وطيدة يجعلهم متمسكين بأرضهم وتراثهم وتاريخهم في ظل عصر الحداثة، مؤكدًا على استمراره في جمع ونشر الموروث الشعبي وكل ما ارتبط بالحياة اليومية من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية قديمة.

حوار "القدس 360" أيقظ الحنين في قلب العقرباوي كما يقول، وسافر بذاكرته إلى رحلة قديمة مع جده، حيث موسم حصاد القمح وجمعه ودرسه وتعبئته في الأكياس ونقله وتخزينه، فرغم التعب والمشقة إلا أنها أيام تحمل من البهجة كمًا كبيرًا، لا سيما الذهاب إلى الأرض على ظهر الدواب، وإفطار الفلاحين الجماعي والشاي على النار، مؤكدًا: "أنا مرسالُ حب الأرض بين الأجيال"

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى