"جمالٌ عثماني" يسرق قلوب زوار القدس
لم يكن الشاعر تميم البرغوثي مخطئًا حين قال: "في القدس لو صافحت شيخًا أو لمست بناية لوجدت منقوشًا عليها متن قصيدة يا ابن الكرام أو اثنتين"، تدرك ذلك حين تطأ قدماك سور القدس العظيم، فتتراءى لك القباب والمحاريب والمساجد والمآذن والمصاطب والأسبلة والبنايات العتيقة بملامح عثمانية، وعمرانٍ بحجارة تروي حكايات قديمة.
مصطبة "شهيدات الرباط"
المصور عيسى القواسمي ابن القدس ومُلتقِط صورها وتفاصيلها، كان ضيف منصة "القدس 360"، ليحدثنا عن بصمات العثمانيين وجماليات عمرانهم داخل سور القدس، والذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني في بداية عهدهم، فقد كان ينظر إلى القدس على أنها جوهرة ثمينة يطمع بها كثيرون، فأراد أن يحميها بسور ضخم ليبقى عبر الأزمان أثرًا لهم.
"مصطبة الصنوبر" كانت أول الأماكن التي حدثنا عنها "القواسمي"، حيث استهل حديثه: "لا يكاد يفوت زائر كُتب له التجول في باحات الأقصى المبارك، أن يتحدث عن أشجار الصنوبر الغابية التي تحيط بالأسوار والأبواب والمحاريب والمصاطب"، فهي تتناثر في حارات المدينة وأزقتها بشكل لافت.
سُميت "مصطبة الصنوبر" بهذا الاسم نسبة إلى أشجار الصنوبر التي تلتف حولها، وتقع جنوب غرب المسجد الأقصى، تحديدًا غرب المصلى القبلي، شمال قبة يوسف آغا القبلية، يصف القواسمي بناء المصطبة بطرازه العثماني: "داخل جدار محاط بالمصطبة، هناك محراب يلفت أنظار زوار القدس، وهو عبارة عن قسمين متلاصقين شمالي وجنوبي، مبني على محيطها مقعد حجري".
مصطبة الصنوبر سميت أيضًا بمصطبة "أبي بكر الصديق" قديمًا، أما حديثًا فقد أطلق عليها اسم "شهيدات الرباط" وذلك تخليداً لأرواح نساء النقب المحتل الثمانية اللواتي قضين نحبهن، وهن عائدات من المسجد الأقصى المبارك إثر حادث سير، حيث كن يرابطن في ساحاته فسُميت بذلك وفاء لهن ولتضحياتهن.
يروي القواسمي حكايةَ اسمها الحديث، يقول: "على جدار المصطبة علق أهل القدس لافتة مكتوب عليها "مصطبة شهيدات الرباط"، وذلك حين اجتمع أهالي الشهيدات في باحات الأقصى لتكريمهم، والذين أكدوا أن أبناء المرابطات وأحفادهن تربوا على أيديهن، وسيبقون على دربهن.
ملاذ فقراء القدس
"تكية خاصكي سلطان" أيضًا من المعالم العثمانية التي تحدث القواسمي عنها "للقدس360، حيث تُعد ملاذ الفقراء وقبلة المحتاجين في القدس منذ قرون، أنشأتها زوجة السلطان سليمان القانوني روكسيلانا، وأسمتها باسمها سنة959هجرية، فكانت أول تكية في فلسطين ومرفدًا اقتصاديًا ساعد أهالي القدس على الثبات والصمود في ظل الفقر المدقع الذي يمر به بعضهم.
يصف "القواسمي" بناء التكية: "تتكون من فرنين و مطبخ ومتوضأ و غرفة ضريح، يتداخل بناؤها في أقسام عديدة مع مبنى سرايا الست طنشق المظفرية"، ويكمل: "الفرنان كبيران ويتواجدان على الجانبين الشمالي والجنوبي للتكية، وفي الجانب الشرقي يوجد المتوضأ وهو خزان حجري تعلوه واجهة حجرية شبه مربعة فوقها عدد من صنابير المياه في جهتها الغربية".
قبة الخضر
وفوق مكان يقال إن الخضر _عليه السلام_ كان يؤم بالناس ويصلي فيه، بنى العثمانيون قبة أسموها باسمه، يقول القواسمي: "تحت قبة الخضر يوجد مبنى عثماني واسع، استُخدِم زاوية للذكر والدعاء والعلم والاعتكاف".
وكباقي العمران العثماني، بُنيت القبة بهندسة دقيقة، ومنظر لطيف، مرفوعة على ستة أعمدة رخامية جميلة، فوقها ستة عقود حجرية مدببة، وبداخلها بلاطة حمراء على شكل محراب باتجاه القبلة، ومن الداخل دائرية، وشكلها مسدس من الخارج.
عبقٌ عثماني
جهود كبيرة بذلها العثمانيون لتطوير عمران القدس وتطوير بنيتها ومعالمها، يحدثنا عن ذلك أ.علي إبراهيم الباحث في شؤون القدس بدأ بقوله: "إلى جانب السلطان سليمان القانوني، سجل السلطان عبد الحميد الثاني اهتماما لافتًا بالقدس، وفي عهده شهدت المدينة عديدًا من التطورات العمرانية".
وعن أبرزها يقول: "تم إيصال المياه إلى القدس من مياه أرطاس، وإنشاء السبيل الواقعة بجانب السور بباب الخليل، كما تم تجديد سبيل قايتباي الواقعة بين الصخرة المشرفة وباب القطانين"، ويضيف: "ومن هذه الجهود أيضًا بناء المدرسة الرشيدية المقابلة لباب الساهرة خارج السور، وإنشاء السكة الحديدية بين يافا والقدس، وبناء المستشفى البلدي الكائن غربي المدينة، وإنشاء برج على السور فوق باب الخليل".
وبعد جولة عثمانية تحدث فيها القواسمي عن معالم أثرية في القدس، روى حكاية العثمانيين الذين يزورونها، فبمجرد دخولهم ساحة المسجد الأقصى يتوجهون إلى قبة الأرواح، يفرشون سجادتهم ويصلون ركعتين، حيث يعتقد العثمانيون أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ قد صلى بالأنبياء جماعة قبالتها، خاتمًا حديثه بالتأكيد على أن عبق العثمانيين يفوح من أزقة القدس القديمة أينما وليت وجهك!