تحت الأنقاض وفوقها.. أوجاعٌ صوتها عالٍ وأخرى صامتة!
"كان صوت إبراهيم يؤنسني.. أقول له: "طمني احكيلي انك عايش واحضن زينة لو قدرت"، ثم أعود وأصرخ: "أنا هنا عايشة طلعوني"، وأغيب في صراخ بصوت مكتوم، كنت أنتظر أن يرفعوا عني الحجارة، وأخرج لأبحث عن أبنائي وأطمئن أن أهلي وزوجي ما زالوا على قيد الحياة، هكذا بدأت "حنين مقداد" رواية ما حدث معها خلال عشر دقائق تحت أنقاض البيت الذي قُصِف فوق رؤوسهم!!
دقائق لم تحسبها حنين غير سنة كاملة أو يزيد، شعرت بها أن الحياة تختبرها بأقسى مما كانت تتخيل، بجانبها زوجها الذي خفت صوته ثم اختفى فجأة، فعلمت أنه قد فارق الحياة.. أما زينة، أنيسة الحرب ووليدتها كانت تئن بصوت منخفض ثم اختفى صوتها هي أيضًا.
"حنين" كانت تعتقد كما تحكي لمنصة القدس 360، أن ما يخنقها ويشد جسدها هو ضمة القبر، كانت تناجي الله بصوت مكتوم أن ينقذها، ويخفف عنها ما ترى، ثم تغيب عن الوعي لدقيقة أو دقيقتين، ثم تعود لتنادي بأسماء أبنائها وإخوتها.
صوت عالٍ ينادي: "من هنا..اللي قادر يحكي يجاوبنا؟؟" فكأن السيارة جاؤوا وألقوا بدلوهم إليها في الجب، فردت عليهم بصوت مخنوق: "أنا حنين"، وبجانبي زوجي وزينة استشهدوا، فيواسيها رجل الدفاع المدني: "سنخرجهم جميعًا يا بنتي، لا تقلقي.. لو أمكنك مساعدتنا ورفع بعض الحجارة عنك"، كانت حنين في هذه اللحظات تدرك أن طوابق البيت السبعة قد أطبقوا عليهم جميعًا.. فقالت لهم: "طلعوا اولادي وأهلي واتركوني طلعوني آخر وحدة".
سمعت صوت أبيها جيدًا، يقول لرجل الدفاع المدني والمسعفين أسماء أبنائه.. سمعت صوته حين بدؤوا برفع الحجارة قليلًا عنها، فهي في الطابق الأول، وكان الوصول إليها أسهل من غيرها في الطوابق العليا.. أخرجوها أولًا وذهبوا بها إلى المشفى، ثم بدؤوا باستخراج البقية شهداء بأجساد لونها أزرق، فقد مات أبناؤها وزوجها وإخوتها وأختها وأمها خنقًا تحت أنقاض البيت.
هي أوجاع تحت الردم صامتة مكتومة.. وما فوق ردم البيت وركامه تعلو الأصوات وجعًا.. فتلك أم تنادي على أسماء أبنائها عل واحدًا يرد عليها فتبرد نار قلبها أنه ما يزال على قيد الحياة، وذاك أب ذهب لشراء طعام لأطفاله ثم عاد ووجد بيته مسويًا بالأرض، وشاب آخر يبكي فوق الركام، يسأله عابر: "ماذا تفعل هنا"، فيرد عليه: "كل شهادات الطب وشهادات خبرتي وأوراقي تحت الركام، اندفن تعبي مع كل عيلتي كل يوم بحاول أحفر بايدي وبرجع آخر النهار مخذول".
"فادي داوود" أحد الناجين من حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، يحكي هو أيضًا لمنصة القدس 360 تفاصيل فقده لعائلته ورحيل بناته الأربعة وزوجته.
كان "فادي" على رأس عمله منذ بدء الحرب الشرسة، المتخصص بتقديم المساعدات الإنسانية في الأزمات والحروب، ففي التاسع والعشرين من أكتوبر، وبينما هو منهمك في عمله، رن هاتفه ليخبره أحد أصدقائه أن البرج الذي نزحت إليه عائلته قبل يومين قد قُصِف بالكامل.
توجه فادي مسرعًا إلى برج التاج (3) ليجده قد سُوِّي بالأرض، ومسح المربع كاملًا بأطنان من الصواريخ والمتفجرات.
يصف هول ما رأى: "أحسست حين وصلت أنه من المستحيل أن يكون ما يحدث هذا حقيقة"، فالأجساد المغبرة من رماد الصواريخ تبحث عن فتحة بين الركام تنادي على من باتوا تحت الأنقاض.. وعلى مسافة بعيدة قليلًا هناك أجساد أطفال طائرة من البرج لخفتها، وبعضها أصابها الشلل أو البتر، ينتظرون دورهم في نقلهم للمشفى.
صوت الهواتف لا تقف.. تحاول الوصول جميعها للدفاع المدني، لمحاولة إنقاذ من كانوا أحياء تحت الردم في الساعات الأولى، أمهات تصرخ بصوت عالٍ، أطفال تبكي، قهر الرجال يتجلى هناك.. يكمل: "أما أنا فقد خارت قواي رغم صلابتي المعروف بها.. بكيت كما لم يبك أحد من قبل".
فوق ركام البرج وقف فادي ينادي: "سما، لانا، جوري، حلا، أسماء"، آملًا أن ترد إحداهن، بينما وصل الدفاع المدني محاولين إخراجهن لمدة ثلاث ساعات، لكن الاحتلال ببطشه وعنجهيته أصدر أمرًا بالانسحاب وإلا سيتم استهدافهم، فاضطر الجميع لمغادرة المكان مع غروب شمس ذاك اليوم.
لمدة خمسة أيام، يذهب فادي إلى أنقاض البرج يقضي نهاره من الفجر حتى المساء ينادي على بناته وزوجته، وهو على أمل أن تكون إحداهن على قيد الحياة، فتأتيه كقميص يوسف ليرتد إليه بصره، وفي اليوم الخامس أخرج الدفاع المدني يد زوجته وجثة محروقة لطفلة بحضنها، عرف "فادي" أنها زوجته من إسوار ذهبي كان قد أهداها لها في عيد زواجهما.. رفض فادي نزعها من يدها كي تكون برفقتها حين رحيلها عن الحياة!
أما الجثة المحروقة فكانت ابنته الصغيرة جوري، يقول فادي: "وصل الدفاع المدني للجثث فكانت جميعها أشلاء ومتحللة، فذاك رأس فقط وتلك يد فقط، ناولني أحدهم أشلاء أطفال وقال لي احتسب أمرك لله وادفنهم.. اعتبر تلك الأشلاء هي أجساد بناتك".
غادر "فادي" الأنقاض إلى المقبرة، ولسان حاله يقول: "لا بد أنه كابوس" وكان قد بُحَّ صوته من البكاء والصراخ بأسماء بناته لمدة أيام.. ولكن دون جدوى!!