بين قبور "اليوسفية".. أمُّ تبكي ومحتلُّ عنجهي
وصلت المقبرة بمجرد أن هاتفها أحد أصدقاء العائلة ليخبرها أن قوات الاحتلال وصلت مقبرة اليوسفية وتمركزت أمام قبر ابنها.. قبل هذا الاتصال بساعات كانت المقدسية "علا نبابتة" قد تركت ضريح القبر فهي ترابط أمامه كل يوم.. وحين وصلت حاولت الشرطة إبعادها وإسقاطها على الأرض، فأجهشت بالبكاء وضمت قبر ابنها وصرخت بهم: ""ادفنوني معه ولا تجرفوا قبره"، إلا أنهم لم يسمعوا لصرخاتها وبدؤوا بنبش جزء من قبره.
"هل يتخيل أحد في العالم أن هناك أمهات يقلقون على أبنائهم أحياء وأموات؟"!! هكذا استهلت أم علاء نبابتة حديثها مع منصة القدس 360، والتي تزور قبر ابنها يوميًا منذ أن علمت أن بلدية الاحتلال شرعت بتجريف أجزاء من المقبرة اليوسفية، رغم صعوبة سماح شرطة الاحتلال لها من المرور إليه منذ وفاته عام 2017م.
بمجرد أن تمر من أمام المقبرة اليوسفية.. تلمح أمهات كثر يجلسن أيضًا على أضرحة قبور أبنائهن، يحرسنهن أمواتًا كما حاولن حمايتهم من بطش المحتل وهم أحياء.. في ظل وجود طواقم البلدية للقيام بأعمال تجريف في جزء من المقبرة التي تعد أكبر المقابر الإسلامية في القدس لإقامة حديقة قومية يهودية.. هذا الجزء الذي يضم قبورًا يعود تاريخها إلى مئات السنين.
تقول نبابتة: "قبل سنوات نبشت شرطة الاحتلال قبور الشهداء في المقبرة اليوسفية وأعاد المقدسيون دفن العظام من جديد بعد أداء الصلاة عليها"، تكمل والوجع بادٍ على صوتها: "معاناة الأم المقدسية ممتدة منذ بداية مشوار أمومتها إلى أن تودع أبناءها"، فالمحتل يلاحقهم وهم أوفياء بنبش وتجريف قبورهم.. لا سيما إذا دفنوا في المقبرة اليوسفية في القدس الشرقية.
مكانة إسلامية وتاريخية وعربية
وكما حظيت المقبرة بمكانة إسلامية، ففي سطور تاريخها أيضًا تحمل مكانة عربية عظيمة فقد ضمت رفات شهداء الجيوش الذين شاركوا في حرب النكسة عام 1967م، ما يجعلها مكانًا وطنيًا يربط مجد العرب بالقدس، حتى سميت بصرح الشهداء، وأيضًا ضمت قبور عدد من الصحابة أبرزهم الصحابيان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، اللذان كانا من أوائل قضاتها وعينهما الخليفة عمر بن الخطاب _رضي الله عنهم_.
لم تكن المكانة التاريخية التي حظيت بها المقبرة اليوسفية عبثًا.. فهي تضم عددًا من المعالم الأثرية كالنصب التذكاري لشهداء حرب 1967م، وآخر لشهداء مذبحة الأقصى الأولى عام 1990م.
وتضم أيضًا "مقبرة الإخشيديين".. يقول "الصوص": "تضم المقبرة اليوسفية قبر مؤسس الدولة الإخشيدية في مصر محمد بن طغج الإخشيد، وقبر أنوحور بن محمد الإخشيد، ومدافن عائلية كبيرة مشهورة في فلسطين"، ويختم حديثه: "المقبرة غنية بقبور الشهداء العظام وأعيان القدس والمربين والعلماء وبعدد كبير من قبور القضاة والشيوخ".
أثر أيوبي عتيق
تحدث المقدسي ماهر الصوص لمنصة القدس 360، ليصف شكل المقبرة اليوسفية وكيف اتخذت مكانة عربية وإسلامية، يستهل حديثه قائلًا: "يطلق على المقبرة اليوسفية مقبرة باب الأسباط أو مقبرة الأسباط، وأنشئت في عهد الدولة الأيوبية، وهي من أشهر وأكبر المقابر الإسلامية في مدينة القدس".
وفي جولة في المقبرة اليوسفية أخذنا "الصوص" ليحدثنا عن البصمات الأيوبية فيها، يصف حدودها قائلًا: "تمتد على ربوة مرتفعة، وتلتقي حدودها مع طريق أريحا، متخذة في امتدادها من جميع الجوانب شكلًا شبه منحرف" ويكمل: "لها بوابتان الأولى شمالًا والأخرى جنوبًا، وفي طريق مرصوف بالحجارة البيضاء ترتبط البوابتان".
"لماذا سميت بهذا الاسم" كان سؤالنا "للصوص"، وأجاب: " سميت باليوسفية نسبةً إلى صلاح الدين الأيوبي، حيث اسمهُ يوسف بن أيوب".
محاولة طمس العربية
وككل شيء عربي في مدينة القدس يحاول المحتل الغاشم تهويده، فإن المقبرة اليوسفية كان لها نصيب كبير من الانتهاكات الإسرائيلية، لطمس العربية من ملامحها! حيث بدأت سلسلة الانتهاكات لتهويدها حين رسمت ثلاث فتيات إسرائيليات نجمة داوود على أحد أضرحة القبور فيها، وكتبن جملة بالعبرية معناها "دفع الثمن"، كما يقول "مصطفى أبو زهرة" رئيس لجنة رعاية المقابر الإسلامية بالقدس في حديثه مع منصة القدس 360.
ثم توالت سلسلة الانتهاكات حتى طالت القبور فهدموا بعضها عام 2018م، والكتابة على القبور عبارات إسرائيلية استفزازية من قبل المستوطنين، عدا عن نبش الشرطة الإسرائيلية للقبور ومحاولتها إخفاء عظام الأموات ومصادرتها بعد عمليات التجريف في المقبرة.
وعن انتهاكات الاحتلال بحق الأموات المقدسيين يقول "أبو زهرة": "دائمًا تدخل قوات الاحتلال الجرافات إلى المقبرة وتجرف أجزاء منها من وقت لآخر لتحويلها إلى حديقة توراتية"، ويضيف: " زعم دولة الكيان أن هذه الحدائق كانت بها وجود يهودي في الأزمان القديمة"، وقد أحديثه عن الاعتراضات المقدمة من قبل اللجنة التي يرأسها لوقف أعمال التجريف لكن المحتل يرفضها ويسمح لقواته بالتجريف ونبش القبور.
يكمل "أبو زهرة" حديثه: "تعمل بلدية الاحتلال منذ سنوات على محاصرة هذه المقبرة، وإحاطتها بالمشاريع التهويدية والمسارات والحدائق التلمودية على امتداد السور الشرقي لمدينة القدس وبمحاذاة المقبرة، كل ذلك يهدف المحتل به إلى إخفاء معالم الممرات والمواقع التاريخية الأصيلة المحيطة بها، وتوجيه ضربة لجذور الوجود الفلسطيني والعربي في القدس".
ولم يكن تهويد المدينة المقدسة لا سيما الأماكن الإسلامية بدأ منذ عصر حديث، بل هو انتهاك امتد منذ عام 1948م حتى يومنا هذا، حين أقرت القوات الإسرائيلية قانونًا تعد فيه أن جميع الأراضي الوقفية الإسلامية بما فيها من مقابر وأضرحة ومقامات ومساجد تحت الرعاية الإسرائيلية تحت مسمى "أملاك الغائبين".
الانتهاك الأكبر الذي أوجع أهالي القدس عام 2021م، حين غيرت بلدية الاحتلال العنجهي بعض ملامح المقبرة مدعية أنها تجري "عمليات ترميم" فيها، شملت هدم سور المقبرة الملاصق لباب الأسباط وإزالة درجها الأثري، وإغلاق الدرج المؤدي إليها.. بينما ما يزال المقدسيون منذ سنين حتى اليوم يهبون بصدورهم العارية لمواجهة محتل يحاول انتهاك حرمة الموتى المقدسيين.. تمامًا، مثلما تبقى الأمهات المقدسيات يرابطن على أضرحة قبور أبنائهن خوفًا عليهم من بطش المحتل حتى بعد رحيلهم عن الحياة!