تقارير

بين دفتي "موجوعة".. جرحٌ مقدسي نازف!

أصابهن الدهشة!! فقد استيقظت قبلهن وانتظرتهن على برش زنزانتها في سجن الشارون، وبمجرد استيقاظهن.... طلبت منهن "إسراء" طلبًا غريبًا، أن يتحلقن جميعًا ويصنعن ثوبًا يحاكي الشخصية الكرتونية "النمر نموش" بلونه الأصفر المرقط بدوائر سوداء..

"هل تريدين أن تعودي لعمل المهرج ونكون نحن جمهورك"؟ سألتها بعض الأسيرات ضاحكة، لتُصعق بإجابة إسراء: "أريد التحايل على ابني معتصم حتى لا يخاف من وجهي المشوه في أول زيارة له اليوم".

كانت تعلم الأسيرة "إسراء الجعابيص" أن ابنها معتصم ابن التسع سنوات، سيفزع حين يراها، بوجه مشوه وأصابع مقطوعة! فأرادت أن تخفف من خوفه وصدمته.

زارت تفاصيل اليوم الذي حُرقت فيه المقدسية إسراء الجعابيص ذاكرتها وهي تنتظر موعد الزيارة الأولى لطفلها "معتصم"، ففي الحادي عشر من أكتوبر عام 2015م تعرضت لحادث سير حين كانت تنقل أغراض بيتها من منطقة لأخرى، فحدث تماس في السيارة أدى إلى انفجار أنبوب غاز ، تقول في حوارها مع منصة القدس 360: "لقربي من حاجز للاحتلال اتهمني الجيش يومها بمحاولة عملية تفجير للسيارة، فأصبت بحروق تصل إلى أكثر من 60 بالمائة من جسدي، ونقلني الجنود إلى مستشفى في القدس وتعرضت للتحقيق وأنا في حالة صحية قاسية".

"موجوعة"

خرجت "إسراء" إلى الزيارة وهي ترتدي ثوب "النمر نموش" بكفوفٍ وأذنين، لتُفاجأ أن طفلها كبر بغيابها، فطلب منها خلعه.. وحين خلعته بكى بكاء شديدًا: "هذه ليس أمي، أريد ماما الجميلة، هذه محروقة". تقول "إسراء" متوجعة.

لم تكن معاناة "الجعابيص" تُوصف بالكلمات، كما تقول لمنصة القدس 360، وتكمل: "لم أستطع القيام بأقل الأعمال اليومية، وأجواء الزنزانة في فصل الصيف كانت تؤذيني كثيرًا مع شدة الحروق التي أصابت جسدي، مع عدم تقديم علاج لي، ورغم خطورة صحتي عاملني الاحتلال كإرهابية وحكم علي بالسجن الفعلي 11 عامًا، ورفض علاجي حيث لم أتمكن من الرؤية بوضوح بسبب الحروق، عدا عن احتياجي لعملية فصل أذني الملتصقتين برأسي".

"موجوعة" كلمة قالتها "إسراء" حين سألها أحد الصحفيين كيف حالك يا إسراء؟ فكانت إجابتها: "الوجع مرئي، موجوعة"، واكتفت بهذه الكلمات المقتضبة.. ولكن بعد أن حررت المقاومة "إسراء" في صفقة طوفان الأحرار، نزف جرحها بين دفتي كتاب عنونته بـ"موجوعة".

"حين تعجز الخطوات عن الوصول وتكبر المسافات رغم صغرها، حين يمسي الليل نهاراً والنهار ليلاً؛ حينما تعزلك عن حضن أمك قضبان من حديد، حينما يصبح الضحية متهماً ثم أسيراً، هذا الكتاب هو باكورة أعمالي داخل الأسر. لعلّ صفحاته تنقل معاناة منعت من النشر" هكذا استهلت "الجعابيص" صفحات كتابها.

نور وسط العتمة

كتاب "موجوعة" كان هدية لابنها "معتصم" بمناسبة ذكرى ميلاده، فأقيم حفل توقيعه في معرض فلسطين الدولي للكتاب بِحُلته الثالثة عشر.

كانت "إسراء" ما تزال بالأسر، أما "معتصم" فكان أول الحضور، داعمًا لوالدته، مصدر قوته، وعن الكتاب تقول "الجعابيص" لمنصة القدس 360: " كانت الكتابة مصدر التنفس الوحيد لي في السجن، في ظل ما أقاسيه، فقد ضحكت، رسمت، توجعت، فضفضت، اشتقت.. ونزفت كل مشاعري المتناقضة هذه بين سطوره، بينما إخراج الكتاب من السجن كانت الخطوة الأصعب في مشوار إصداري للكتاب".

ورغم فقدان أصابعها وعدم قدرتها على الكتابة، إلا أن "الجعابيص" أصرت أن تنهي الكتابة بمساعدة الأسيرات، فقد امتلكت إصرارًا جعلها تتخطى صعوبات السجن، تقول: "حصلت على شهادة الثانوية العامة داخل الأسر، وأكملت تعليمي الجامعي بتخصص الخدمة الاجتماعية عام 2020م، وكتبت أبحاثًا كثيرة عن الإهمال الطبي للأسرى والأسيرات داخل سجون الاحتلال".

على ضوء خافت في زنزانة معتمة كتبت "إسراء"، نزفت حروفها على الورق بين دفتي "موجوعة"، ورغم ظلام السجن وقسوة حالتها في السجن رأى كتابها النور، لتقول لمحتلٍ غاشم: "نحن نستطيع، قطعت أصابعي، وكتبت بقلبي، نزف جرحي، وسمعني العالم كله".

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى