تقارير

بلال أبو نحل.. فنانٌ أبكم وريشةٌ ناطقة!

لم يسمع "بلال" من الناس همومها، ولم يهزّ قلبَه صوتُ الصواريخ.. هو أصم أبكم لا يعرف كيف يسأل أبًا كسير الظهر يجلس على ناصية مخيم النزوح لماذا تبكي؟ ولا يستطيع مواساة أم فقدت زوجها وأبناءها جميعهم وبقيت تصارع وحدة الليل وقسوة الحرب! ولا يسمع نحيب الزوجات اللواتي فقدن سندهن وهن يبكين ليلًا، فقد ثقل الحملُ على أكتافهن وحدهن..

 لكنه الفنان المرهف القريب من قلوب الناس.. يلحظ في عيونهم ووجوههم ما وقع على قلوبهم من أوجاع، فقرر أن ينقل آلامهم لما وراء حدود المدينة المحاصرة، وأصر أن يخاطب العالم عن مآسي الغزيين في أيام الحرب التي افترست حياتهم فأحالتها إلى جحيم!

بلوحات فنية تجسد واقع الحرب والفقد والنزوح والجوع ولحظات الوداع المرة، ينقل الفنان "بلال أبو نحل" من ذوي الهمم معاناة الناس ويعاتب العالم، كما يهدي أم شهيد حزينة صور أبنائها الشهداء فيبتسم قلبها.

دون دعوات أو مراسم افتتاح كما المعارض الفنية، حول الفنان "أبو نحل" خيمته المهترئة إلى معرض فني، على إحدى نواصي شارع السلام في مدينة دير البلح.. هذه المنطقة التي يصفها الغزيون بأنها الأكثر ازدحامًا في العالم، لكثرة النازحين فيها في الشوارع والأزقة وبين البيوت وعلى الأرصفة.

حاورت القدس 360  صديقه المقرب "رياض الجايح" الذي يترجم لزائري معرضه في الخيمة ما يريد أن يوصله لهم، وهو مرسالٌ بينه وبين كل الذين يرونه عبر الإنترنت.. وهو أيضًا المتكفل به بعد أن نزح إلى بيته وفقد مصدر دخله.

لم يستسلم الفنان بلال أبو نحل (26 عامًا) بعد أن قطع الاحتلال شريان الحياة في غزة، فكانت جدران خيمته التي يكسوها النايلون الممزق نافذةً لأطفال غزة ونسائها على العالم.

لوحات الحرب الرمادية

اختلفت اللوحات كثيرًا.. يقول "بلال" لصديقه إنه يوجعه اختلاف الألوان التي يستخدمها، فكان يلون شوارع غزة وحكايا أهلها وبحرها بألوان قوس قزح، بينما الآن كل اللوحات أصبحت رمادية بألوان باهتة.

الرسم كما يراه الكثير هواية، كان للشاب "أبو نحل" مصدر دخله في مدينة محاصرة أطبق عليها المحتل الخناق وأحكمه، فكثير من جدران غزة تلونت قبل الحرب بريشة "بلال"، كما كان يرسم بورتريهات لشخصيات ورموز وطنية لها أثرها في فلسطين.

يتوجع بلال" لمجرد تذكره كيف كانت اللوحات التي يرسمها لأطفال غزة مبهجة تمتلئ بالألوان الزاهية وبأحلامهم؛ بينما أصبحت بعد الحرب مؤلمة حزينة ويقطر من وجوههم الحزن.

الفن في بنك أهداف المحتل

حِلمُ بلال الذي قتلته الحرب المشاركة في معارض دولية خارج غزة، فيكون صوت فناني غزة الذين لا يجدون فرصًا لنشر فنهم ورسوماتهم، يقول "الجايح": " يتمنى بلال أن يشارك لوحاته التي رسمها في أيام الحرب بمعارض خارج غزة ليشعر بأن له أثرًا في الحياة، وحتى يوصل معاناة الغزيين للعالم، فهو يوجعه أن فنهم يبقى محدودًا بسبب حصار غزة"، كما يرى أن صوت غزة يجب أن يصل لا سيما بعد حرب الإبادة الجماعية بحق أطفال ونساء غزة.

يدرك المحتل جيدًا أن الثقافة والفن هما أسرع طريقين لوصول رسالة شعب أعزل إلى العالم، فجعلها على هرم بنك أهدافه، فقتل الفنانين والرسامين والكتاب وقصف المكتبات والمؤسسات الثقافية وكل ما يمت للفن بصلة، فسوى أكثر من ٥٠ مؤسسة ومركزًا ومسرحًا بالأرض، ودمر عشرات دور النشر والمطابع.

حاورت منصة القدس 360 أ. عرفات صبيح مدرس التربية الفنية في إحدى مدارس رفح سابقًا وأحد زائري خيمة الفنان "أبو نحل"، يقول في مستهل حديثه: "خيمة الفنان بلال تسطر أعظم صور التحدي التي رسمها الغزيون منذ بدء حرب الإبادة، لا سيما أنه أقام معرضه الفني في منطقة مزدحمة بالنازحين، وهذا يوصل رسالة للعالم أن الإرادة لا تخبو في قلوب الفلسطينيين رغم القتل والخراب".

كما شدد في حديثه على ضرورة دعم الفنانين لا سيما في ظل قتل الاحتلال لكثير منهم، وتدمير عدد كبير من المؤسسات الثقافية، وأكد على ضرورة دعمهم معنويًا وماديًا.

يحاول بلال في خيمته أن يطرق جدار الصمت في قلوب المتفرجين على ما يتعرض له أهل غزة من وحشية، بريشة ناطقة، وعزيمة لا تلين، وقهر يملأ قلبه دون كلام يُقال! لا سيما حين يرسم رفاقه الذين مضوا في أيام الحرب وألحقهم المحتل بقافلة الغُيَّاب آملًا أن يكون للوحاته صدى أقوى من كل الخطابات.

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى