ببترِ أطرافِهم.. أحلام الأطفال تُوأد في غزة
كانت الشمس تميل إلى الغروب والسماء رمادية ملبدة بدخان الصواريخ، حين كان الطفل "عاصف أبو مهادي" ذو الحادية عشر عامًا ينادي على أبناء عمومته ليلعب معهم كرة القدم كما اعتادوا كل يوم، فلم يخبُ شغف كرة القدم في قلبه رغم الإبادة، وكان يردد: "ما أزال أطمح أن أكون لاعب فلسطين الأول في كرة القدم".
حلم يتبدد
بدأ عاصف اللعب مع أبناء جيرانه وعمومته، مرتديًا زي الرياضة الذي اعتاد ارتداءه، وبعد ربع ساعة عكر صفوهم ضجيج الطيران الكثيف المفاجئ فوق رؤوسهم، شتت انتباههم ولكنهم قرروا عدم الالتفات لصوت الطائرات الحربية الصاخب، واستمروا باللعب.
وبينما كانوا يلعبون بحماسة، سقطت الكرة في أرض زراعية مسورة بجانب البيت، فذهب عاصف لصاحب الأرض يستأذنه الدخول، لكن صاروخًا إسرائيليًا لم يمهله الوصول ليلتقط محبوبته.. فقد شعر بمس كهربائي في قدمه ثم غاب عن الوعي!!
بعد يومين استيقظ عاصف على سرير المستشفى، نظر إلى يمينه فوجد أمه تبكي بحرقة، سألها: "أين أنا؟" وما هذا الوجع بداخلي؟، ولماذا خرجت جدتي تبكي من الغرفة بمجرد أن استيقظت"؟ لم تجبه أمه، بادر طبيبٌ بالحديث معه: "عاصف أنت إنسان قوي وطفل شجاع، اضطررنا لبتر قدمك يا بطل، حتى لا يتسمم دمك ويفارقنا هذا الوجه الحسن".
صُدم عاصف وعاش في دوامة كبيرة منذ أن أخبره الطبيب بالخبر الحزين هذا.. وحامت في رأسه أسئلة كثيرة: " كيف سأحقق حلمي أن أكون لاعبًا مشهورًا؟ كيف سأذهب إلى المدرسة؟ وكيف سأكمل حياتي بلا قدم؟ ومن سيكون حارس المرمى باحتراف في فريق المدرسة؟"
لم يكن يتوقع عاصف في يوم من الأيام أن شغفه سيتبدد، وأنه بعد عنفوان نشاطه وحركته الذي عرف به قد أصبح مقعدًا بلا قدم.
بتر ذلك الصاروخ قدم "عاصف" وأقعده على كرسي متحرك، لكنه لم يمنع عنه أن يتخيل أن عصافير أحلامه في يوم ما سوف تعود لتغرد في قلبه ويمثل فلسطين في بطولات عالمية.
عبر الهاتف تحدثت "القدس 360" مع الطفل عاصف، ليروي حكاية حلمه الذي بتره جندي محتل بضغطة زر، وهو يجلس وراء كرسيه في الطائرة.. قصة الحلم الذي بدأ منذ الخامسة من العمر وانطفأ نوره باكرًا.
يقول عاصف بقلب القوي الواعي: "دائمًا كنا نقول نحن فداء الوطن، والآن سبقني جزء من جسدي للجنة فداء للقدس"، ورغم القوة التي تظهر في نبرة صوته، ارتجف صوته والحسرة بدت ظاهرة على كلامه: "تلاشى حلمي وضاع فقد كنت أطمح أن أصبح حارس مرمى فلسطيني مشهور، وكنت منتسبًا إلى نادي أكاديمية الوحدة، وكان عندي الزي والحذاء والقفازات الرياضية".
"ازرعوا قدمي"
على السرير المقابل لعاصف، يرقد جرح آخر من أوجاع أطفال الوطن السليب، فالطفلة "ليان الباز" تصرخ كلما انتهى مفعول المسكن الذي تتناوله: "لا أريد أطرافًا صناعية، ازرعوا لي ساقين".
تبلغ ليان من العمر 13 عامًا، وما تزال بحالة صدمة كبيرة حين وجدت نفسها دون قدمين.. فقد كانت تحلم أن تكون ممرضة هي وصديقاتها.. تبكي طوال الوقت متسائلة: "كيف سأكون ممرضة بلا قدمين"؟ وحين يشتد ألمها تقول للأطباء باكية: "لا أريد أطرافا صناعية، أريد أن يزرعوها ثانية"، وتحاول إقناعهم: "ليست مقطوعة تمامًا بإمكانهم إعادة زرعها".
كانت ليان تحتفل بميلاد أختها لطفلها البكر، وتتويجها بلقب الخالة للمرة الأولى، غير أن قصف بيت أختها بمجرد وصولها قد أهدر أحلامها ووأد الفرح بقلبها، لتجد نفسها بعد يومين بضماد كبير يلف قدميها ووجع لا يوصف، بعد أن فقدت شقيقتيها واثنين من أبناء أختها أحدهما ولد قبل خمسة أيام فقط من يوم قصفهم.
منذ السابع من أكتوبر فقد الآلاف من أطفال غزة ونسائها وشبابها أطرافهم بسبب استخدام الاحتلال للصواريخ المجنحة المحرمة دوليًا، وبقاء الجرحى ساعات تحت أنقاض البيت دون أن يسمح بانتشالهم فورًا، ما يؤدي إلى بتر أطرافهم بسبب الثقل الواقع عليهم، عدا عن أن عمليات البتر تتم في ظروف مروعة وبدون مخدر.
حيث تشير تقديرات منظمة أوتشا في يوم الطفل الفلسطيني الخامس من إبريل، إلى أن عدد الجرحى الأطفال وصل إلى 39 ألف طفل منذ بدء حرب الإبادة، وأكثر من 5900 طفل منهم لديه إعاقة دائمة، كما تؤكد إحصائيات منظمة أوتشا على أن غزة تضم أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث!