تقارير

انتهى العيد.. غزة توشحت بثوب الحداد!

جاء صبح العيد، وعلت أصوات التكبيرات في الخيام، لتغتسل الأرواح من وجع أيام الحرب ولياليها.. بينما حملت الجدة "أم محمد الشريف" ملابس أحفادها الشهداء التي اشتروها قبل أن يقصفهم المحتل وهم يحلمون بفرحة العيد.. فقد كانت الصواريخ ونارها أسرع من ضحكاتهم وصورة يلتقطونها بثوب العيد المبهج!

غيابٌ موجع

وصلت المقبرة.. وأمام شاهد قبرهم، فرشت ملابسهم، ووسط وجع كبير بدا ظاهرًا على وجهها، لم تنسَ الجدة المكلومة تفاصيل العيد التي جهزتها "فاتن" مثل الإكسسوار الوردي والنظارة الشمسية، ولا اللعبة التي اشتراها "محمد" من أمام مخيم النزوح حتى تلفح قلبه فرحة العيد.

حديث لا يصل، ودموع لا تنتهي، وثوب افتقد البهجة حين سرقت الحرب أعمار أصحابه، فرشته على تراب بارد، ولم تفتأ تقول لهم جدتهم كلمات الوداع على عتبات غيابهم: "لا عيد دونكم، لا طعم ولا ألوان مبهجة..عيدي توشح بالسواد ببعدكم يا أحبابي".

بجانب سريرهم الصغير كانوا يفرشون الألبسة الجديدة في انتظار صبح العيد فيما مر هذا العيد صامتًا من الفوضى الجميلة التي يصنعونها ببيت جدتهم ببالوناتهم وألعابهم وضجيج سعادتهم.

صوت العيد غائب

وفي مدخل مخيم النزوح حيث كان الطفل المنشد "حسن عياد" يقيم حفلاته قبل الحرب.. ذهب والده دون يد حسن التي لم تفلت يده يومًا.. ليس ليقيم حفلًا، بل ليرثيه في أول عيدٍ له دونه!

كان "حسن" يعلق زينة العيد في أزقة مخيم النصيرات حين يقترب العيد، ويقيم حفلاته الصغيرة لأطفال الحي، ينشد بصوته الجهوري أناشيده الحماسية التي استقاها من بيروت وتاريخها قديمًا وأسقطها على حرب غزة بأوجاعها وآلامها، لا سيما "اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت"، فيعلو صوته على صوت الصواريخ والطائرات!

جاء العيد وغاب صوته! وقف الأب حزينًا أمام أحباب "حسن" وأصدقائه" يرثيه وينشد لأمه التي فقدت وحيدها.. بعد أن كان يحول التعب في وجوه الناس من الحرب إلى بهجة لا متناهية في قلوبهم...فكما كانت أول المصفقين له في السطر الأول بين الحاضرين، كانت في حفل العيد هذا أول الباكين عليه.

حلاقة مقابل الطعام

هل سمعت يومًا أن حلاقًا يقايض زبائنه على الطعام مقابل الحلاقة!! في غزة فقط كتب حلاقٌ لافتة علقها على باب دكانه قبل يوم العيد: "يتوفر لدي حلاقة مقابل الطعام.. يعني لو جبت حبتين بندورة أو بتنجانة أو خيارتين أو معلقتين سكر بمشي الحال، غلوة قهوة برضو بمشي، علبة فول، علبة فصوليا برضو بمشي .. وهناك عرض خاص للعرسان ..صحن سلطة جاهز بطلعك عريس تلمع لمع".

لم تحمل هذه الكلمات سوى حسرة كبيرة في قلوب أهالي قطاع غزة، حيث المجاعة تفتك بمعداتهم، بينما أراد الحلاق أن يشعر الناس بطقوس العيد، في محاولة منه لإحيائه.. فتوافد الأطفال إلى دكانه ضاحكين يحملون ما استطاعوا حمله له، تقرقر بطونهم جوعًا محاولين أن يسرقوا من فم الحرب بسمة!

عيديةُ أم

كان العيد في قلب الطفل سعيد العطار ابن مدينة لاهيا مختلفًا.. فقد أراد أن تكون عيدية أمه كيس طحين يعود به.. فمشى صبح العيد عشرات الكيلومترات كي يرى ضحكة أمه وأخواته حين يعود وعلى أكتافه كيس الطحين، مخففًا عنهم جوع الأيام وثقل الحرب!

لم تكن تعلم أم سعيد أن الفرحة التي رسمها طفلها في مخيلته ستتحول إلى مأتم لا يُغلق سرادقه في قلبها أبدًا، حين عاد لها شهيدًا يحمله أصحابه على أكتافهم وينشدون له "شيلوه يا أصحابه الله رضي عنه".

انتهى العيد ولم يزُر غزة، لم يحمل الأطفال عيدياتهم ولم يجدوا أرجوحة ينسون عليها قهر الحرب حيث قصفها ومردها المحتل، ولم يعلقوا زينة العيد في أزقة المخيمات.. ثياب العيد لم تكن حاضرة أيضًا، زيارات الأحباب ناقصة، لا بيوت تُزين، ولا فرحة تُعاش، فقد زار العيد كل العالم وزار غزة الجوع والخوف والدمار دونه وبقيت تتوشح بالسواد وتلبس ثوب الحداد!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى