الهدم الذاتي.. حين ينهار شقاء عمرك دفعة واحدة
طوبة فوق طوبة، بني الشاب المقدسي سامي الحلواني، من حي راس العامود في القدس بيته لأجل تأسيس عش الزوجية بين جدرانه، ولم يكن يتخيل يومًا أن تتهاوى حجارة البيت أمام عينيه دفعة واحدة مشاركًا في هدمها بعد سنوات التعب والشقاء.
شقاء السنين
رصدت منصة 360 قهر المقدسي الذي انهار أمامه شقاء عمره أمام عينيه وخلال ساعات فقط!! من اللحظة الأولى التي استلم من بلدية الاحتلال إخطارًا لهدم منزله بنفسه أو أن تهدمه البلدية مقابل تكاليف باهظة للهدم حتى اللحظة الأخيرة التي أصبح فيها البيت أثرًا بعد عين في رسالة من الاحتلال أن البشر والحجر مستهدفون في القدس.
قهر كبير سكن قلب الشاب الحلواني، فكيف بتعب العمر في وطن محتل، كل شيء يحصل عليه الإنسان بقهر كبير أن يذهب أدراج الرياح وكأنه لم يكن... والأدهى هو أن يشرف على هدمه بذاته ويشارك في ذلك!!
"لم يكن هدم البيت فقط هدم حجارة.. فقد هدمني المحتل ودمرني داخليًا وسكنت الحسرة قلبي، فكل حجر بنيته بعرق الجبين وتتهاوى فرحة قلبي معه، وهدم لأحلامي مرة واحدة"، هكذا عبر الشاب الحلواني يوم هدم المنزل وهو يجلس قبالة البيت ويرى المعدات تهدمه بلا رحمة، عدا عن أهل الحي والأقارب الذين يحملون أدوات بسيطة ويساعدون بهدمه، لتخفيف تكاليف الهدم عليه.
ويكمل: "فإما أن تهدمه بيديك وإما أن تدفع مئات الآلاف من الشواكل مقابل هدم الاحتلال له كعقاب مضاعف للرفض، يعني موت وخربان ديار"، ولكنه ختم حديثه بنبرة تحدٍ وصمود: "هدف الاحتلال لن يتحقق فنحن باقون على أرض القدس ولن نغادرها رغم كل الألم والقهر".
لم تكن الآثار مادية فقط كما أخبرنا الحلواني، فهناك آثار نفسية واجتماعية للهدم المنزلي كضرب صمود المقدسيين، وتفريق أفراد العائلة لعدم وجود بيت يضمهم، ما يؤدي إلى تفكيك الأسر وشتاتها.
انتهاك يجمله الاحتلال
تتحجج بلدية الاحتلال في القدس في قرارات الهدم الذاتي بعدم حصول المقدسيين على تصاريح للبناء، وفي الوقت ذاته فإنها ترفض إعطاءهم التصاريح؛ لتعجيزهم، وأخذ مساحات أكثر لبناء مستوطناتهم ما يحولها إلى يهودية الطبع والمكان .. بهدف كسر عزيمة الفلسطينيين، رغم أنها في الوقت الذي ترفض فيه إصدار تصاريح بناء للمقدسيين، تمنح المستوطنات تراخيص لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية في القدس.
كما أن الاحتلال يسعى إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القدس، والقضاء على الهوية الفلسطينية وتعقيد حياة المقدسيين، عبر منع حدوث أي امتداد عمراني فلسطيني، في معركة وجودية يعيشها المقدسيون مع المحتل الذي يريد الهيمنة على القدس وإحكام قبضته عليها وتغليفها بحزام استيطاني.
تلك السياسات ضد المقدسيين، لقيت رفضًا فلسطينيًا ودوليًا شعبيًا ورسميًا وحقوقيًا، فلجأ الاحتلال إلى الهدم الذاتي كسياسة لا يصبح حولها ضجة إعلامية، فيتهرب من المشهد الإعلامي الذي يظهر جرافة هدم وجنود يحيطون البيوت المقدسية، وما يتخلله من ضرب واعتقال واشتباك بين الجنود والمقدسيين.
سيف التهويد
لم يكن هدم المنازل حتى الذاتي منها انتهاكًا جديدًا، بل هو سيف يسل على رقاب المقدسيين منذ القدم، ففي عام 1973م حين ترأست جولدا مائير الحكومة الإسرائيلية أمرت بتشكيل لجنة لقلب المعادلة الديموغرافية في القدس المحتلة، لتصبح 25 بالمائة منها عرب و75 بالمائة إسرائيليين.. بحسب الائتلاف الأهلي لحقوق الإنسان في القدس المحتلة.
إخطارات الهدم تتوزع في القدس والأراضي المحتلة كافة، بينما تتركز في قرى محافظة القدس والبلدات المحيطة بالبلدة القديمة كمنطقة باب العامود وبلدة جبل المكبر ومخيم شعفاط وحي البستان، وحي وادي الجوز، وكفر عقب، وبلدة حزمة، ومنطقة الخنيدق، وراس النادر ببلدة بيت عنان شمال غربي القدس.
فلم يلجأ المقدسيون إلى خيار البناء دون تراخيص إلا بعدما ضيقت عليهم سلطات الاحتلال وانتهجت عدة طرق لإغلاق الأبواب أمامهم، كمصادرة الأراضي أو بناء أحياء مخصصة للسكان اليهود، وكذلك الإعلان عن إنشاء حدائق وطنية شرق القدس، حتى لا يبني المقدسيون فيها، فلم يبق أمامهم إلا البناء دون تراخيص.
إحصائيات وأرقام
بعدما شن الاحتلال عدوانًا شرسًا على غزة في السابع من أكتوبر 2023، ازدادت الانتهاكات ضد المقدسيين، فقد وصل العدد الإجمالي لعمليات الهدم منذ السابع من أكتوبر إلى 221 منشأة.
ومنذ بداية عام 2024 هدم الاحتلال شرق القدس 152 منشأة، منها 88 منشأة تم هدمها هدمًا ذاتيًا، فيما سجل شهر تموز رقمًا قياسيًا في عدد المنشآت التي هدمها الاحتلال ، وصل عددها إلى 64 عملية هدم، منها 10 هدمت هدمًا ذاتيًا.
مقاومة مقدسية
طرق كثيرة يحاول المقدسيون فيها المقاومة أمام قرارات الهدم التي تصدرها بلدية الاحتلال، كإغلاق الطرق أمام الآليات الإسرائيلية، وسكب الزيت في الطرقات، وبناء الحواجز والمواجهة المباشرة مع القوات الصهيونية، عدا عن دعوة المقدسيين إلى إقامة خيام اعتصامية دائمة لرفض هذه الانتهاكات.
وكثير منهم يبنون خيامًا أمام بيوتهم التي يهدمونها كرسالة للاحتلال :"إننا لن نبرح القدس ولن نتزحزح عنها".