تقارير

الاحتلالُ يقتل "شغوفات غزة" خوفًا وقهرًا

تزاحمت الأحلام بقلبها في تلك اللحظة.. على يمينها تغفو طفلتان لم تعرفا بعد معنى الفرح ولا بهجة العيد!! فقد باغتت الحرب أطفال غزة جميعهم فتبدلت أمنياتهم الوردية إلى رمادية قاسية، فلم تعد زي المدرسة بل معطفًا شتويًا يقيهم البرد في الليل، ليس طابور الصباح بل عدم الإطالة في البحث عن ماء نظيف للشرب كل يوم، ليس صورة عائلية صبحَ العيد بل أن يبقى اسم للعائلة فلم تكن خبرًا ذات يوم مفاده: " ارتقوا جميع أفرادها ومسحت من السجل المدني".وكثير من الأحلام التي وأدها المحتل العنجهي وأبدلها بطقوس يومية قاسية جدًا على قلب "هيا مرتجى".

كان في تلك الليلة قد اكتمل اليوم الأربعين للهدنة ووقف إطلاق النار، التي وصفتها "هيا" بلقطة النفس بعد عام ونصف من القتل والجوع والنزوح والقصف والرعب، وطوابير لا تنتهِي في حياة الغزيين.

أحلام بأغانٍ جميلة

حدثت "هيا مرتجى" منشدة الأطفال في تلك الليلة زوجها: "لن تعود الحرب.. فقد أصبح هناك مساحة أمامي لأعيد رسم طريق يمتلئ بالورد والألوان لي ولطفلتاي كما كنت أحلم"، وبدأت بالحديث عن الاستديو الذي تطمح بافتتاحه، معبرة عن تمسكها بأحلامها أكثر من ذي قبل بعد أن أحاطهم الموت بلا رحمة.

الاستديو الصغير الذي كان على قمة هرم أمنياتها كان لتسجيل الأغاني الفلسطينية الشعبية، وتصوير حكايا الأمل لأطفال غزة وسط الرماد الذي تغلغل في قلوبهم، كي تحاول إدخالهم إلى عالم لا يُسمع فيه صوت القنابل والصواريخ، ولا يُستنشق فيه النار والبارود.

وسط رسم هيا لأحلامها وحديثها مع داعمها الأكبر "زوجها"، ودون سابق إنذار أسقط المحتل الغاشم أكثر من 100 صاروخ على مدينة غزة معلنًا انتهاء الهدنة المحددة لوقف إطلاق النار، ليتوقف قلبها "خوفًا" من الرعب الشديد الذي دبَّه الاحتلال في سماء غزة.. لتمكث عشرة أيام في المشفى على سرير الموت، وبعد عشرة أيام ترحل شهيدة تاركة خلفها ابنتيها مريم وشام اللتين تنتظران حتى اليوم عودتها لتغني لهما أغنية الصباح بصوتها الندي، وتروي لهم بصوتها الحاني قصة ما قبل النوم!

كانت هيا تتفاجأ دومًا كيف أن الطفل "ريان سليمان" ابن مدينة بيت لحم قد رحل شهيدًا بسبب الخوف من جنود الاحتلال على الحاجز، فقد تساءلت كثيرًا مستنكرة: "هل يوقف الخوف القلب؟ وهل المثل المجازي "مات من الخوف" بات حقيقة في فلسطين؟!! لترحل "هيا" بعده بثلاث سنوات على أرض غزة خائفة! لتكون إحدى الفتيات الطموحات اللواتي قتلتهن "إسرائيل" حين حولت غزة من مدينة الشغف إلى مدينة الحرائق!

لم يكن الخوف فقط من يقتل أهل غزة، فقد زارهم الموت حرقا وبردا وجوعا ورعبا وقهرا، فأكثر من خمسين قلبًا توقف في ظل الإبادة رعبًا من صوت القصف وصوت مجنزرات الدبابات المخيف.

قهر النزوح

"سعاد سكيك" أيضًا واحدة من الشغوفات اللواتي توقفت قلوبهن قهرًا، فقد تزامن أشد أوقات عمرها شغفًا مع الحصار المدقع الذي فتك بمواهب شباب غزة، والذي وقف حائلًا بينهم وبين تحقيق أمنياتهم، لكنها لم تتخلَّ عن حلمها منذ نعومة أظفارها، حلم المذيعة التي ستبث خبر تحرير الأقصى وتبييض السجون.

هي صحفية موهوبة بينها وبين المايكروفون علاقة وطيدة، تغذيها بالجد والاجتهاد والتدريب.. كانت تُجلس عائلتها وهي طفلة كأنهم جمهورها، تمسك الهون من مطبخهم وتلقي نشرة الأخبار، وتقلد المذيعين المشهورين في نهاية نشرات الأخبار.

والدة سعاد التي لم تتمالك الحديث دون بكاء عن وحيدتها "سعاد" مع القدس 360، عادت إلى المرة الأولى التي أمسكت "سعاد" به ثوب حلمها فرِحة، حين ظهرت على أثير إذاعة الإيمان الناطقة باللغة العربية الفصيحة، تقول: "يومها رجعت سعاد إلى البيت والسعادة لا تسع قلبها فقد قال لها أستاذ عريق في الإذاعة والتعليق الصوتي "ستكونين يومًا ما تريدين، أنت مشروع مذيعة متميزة"، وتكمل:  "كانت تقول دومًا المايكروفون عشقي وراحتي وملاذي ".

كان لسعاد برنامج مسائي خاص بها هو "برنامج السابعة مساء"، كما كانت تعد برامج إذاعية لعدد من القنوات والإذاعات، وفي كل عام تشهد فرحة الخريجين بالجامعة الإسلامية حين كانت تُعين عريفة حفلات التخرج ومقدمتها.

عجلة الأحلام والطموحات أوقفتها حرب الإبادة على غزة، فنزحت إلى وسط غزة تاركة أمنياتها وراءها، واصفة السياسة التي يستخدمها الاحتلال منذ بدء الإبادة: "سياسة الأرض المحروقة".

تصف والدتها حالها في أيام النزوح، تقول: "أتعبها التهجير القسري كثيرًا، فكيف لمدللة أهلها أن تفترش الأرض وتلتحف السماء، تعيش في خيام مهترئة، تلسعهم الشمس ظهرًا، ويقرصهم الصقيع ليلًا، وزخات الرصاص تتساقط حولهم، ووابل الصواريخ  يباغت نازحي الخيام بلا رحمة فيرحلون حرقًا، أما أكثر ما يوجعها فكان العائلات التي ترتقي مرة واحدة".

كانت الكلمة الأخيرة التي كتبتها سعاد للعالم "أريد العودة لبيتي، لم أتحمل ذل النزوح، أريد أن أصرخ صرخة قهر على جبل عالٍ وأفرغ ما بقلبي من وجع"، فكانت تلك بمثابة صرخة الموت التي أوقفت قلبها قهرًا كما تقول أمها باكية.

رحلت هيا مرتجى وبقي سؤالها معلقًا في قلوب الأطفال بغزة، وعلى منصات التخرج في الجامعات وعلى الأراجيح المدمرة: "متى ينتهي هذا العدوان؟؟ ومتى ينتهي هذا الألم؟" تمامًا كما رحلت "سعاد سكيك" وهي تبحث عن إجابة لسؤالها: "كم من قلب سيتوقف قهرًا في غزة؟"

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى