الأعياد اليهودية.. مواسم الانطفاء لأسواق القدس
في الممر الأخير من سوق الخواجات، حيث تتناثر أصوات الماضي بين النحاس والمطارق، يجلس آخر النحاسين المقدسيين الحاج محمد عبدالجواد، كحارسٍ لهوية دكانه التي لم تغلق منذ أكثر من خمسين عامًا، حيث يفتح دكّانه كل صباح، متحديًا موسم الانطفاء الذي يخيّم على أسواق القدس منذ حلول الأعياد اليهودية.. فالأزقة التي كانت تضج بالحياة تحوّلت إلى فراغٍ صامت، وأبواب الحوانيت أغلق نصفها، وممرات البلدة القديمة خالية إلا من أقدام الجنود!
منذ أكثر من خمسين عامًا، يتمسك "عبدالجواد" بمهنة النحاسة التي تعلمها من أبيه والذي ورثها عن أبيه وأجداده، رغم كل محاولات المحتل العنجهية لتفريغ مدينة القدس من هويتها العربية وعراقتها التاريخية وسعيه إلى تهويد أدق التفاصيل فيها.
صمت الأسواق
حاورت منصة القدس 360 الحاج "عبدالجواد" الذي يصر على إبقاء دكانه مفتوحًا في موسم الأعياد والذي استهل حديثه: "الأسواق في الأعياد اليهودية تتحول إلى فراغ كبير في البلدة القديمة التي اعتاد المقدسيون على حيويتها، كل الضجيج بها يتحول إلى صمت محزن، فتكون الدكاكين نصف مغلقة، وتغلق كثير منها، والطرقات تصبح خالية من المقدسيين وأهل الضفة لأنهم يغلقون الطرق ويمنعونهم من الوصول، ويؤجل سياح القدس زياراتهم خوفًا من الحواجز وتوتر الأوضاع".
عراقيل وخسائر
منذ الفجر يصر الحاج "عبدالجواد" على فتح دكانه، ولكنه يشعر أن روح الأسواق قد سلب منها، يكمل حديثه: "في مواسم الأعياد نبيع في أسبوع ما نبيعه عادة بيوم واحد، يضع الجنود حواجز التفتيش عند مداخل البلدة القديمة ويمنعون أهل الضفة من الوصول إلى أسواق القدس، ويعطلون شاحنات البضائع القادمة من الضفة، وبعضها يُعاد بحجة عدم وجود تصاريح خاصة بالعيد، ما يجعلها في حالة ركود لا توصف، ففي موسم الأعياد نخسر نحو 40% من دخل الشهر".
صعوبات كثيرة يضعها المحتل الغاشم أمام الوافدين إلى مدينة القدس في الثالث والعشرين من سبتمبر وتستمر حتى الرابع عشر من أكتوبر، يصفها "عبدالجواد" قائلًا : "يضع الجنود حواجز حديدية ويطلبون بطاقات الهوية حتى من كبار السن، وكثير من الزوار يعودون أدراجهم دون السماح لهم بالمرور"، ويسترسل: "إجراءات كثيرة يتخذها الاحتلال يقلل فيها الحركة التجارية ويعقد بها سبل العبور، حيث يفرضون قيودًا مشددة على مداخل البلدة القديمة ما يعيق وصول الفلسطينيين حتى بعض المقدسيين من الوصول إلى الأسواق، كما يغلقون شوارع كثيرة مؤدية للقدس، ويحول مساراتها فيصعب على بعض التجار إدخال البضائع".
لم تكن خسائر المقدسي محمد عبدالجواد مجرد أرقام مادية، بل كانت غصّةً في صدره على مدينة تُحاصَر في ذاكرة زوارها، يقول متنهدًا: "نصر نحن التجار وأصحاب الدكاكين أن نبقي الأبواب مفتوحة ولو نصفها، وأن نبقي ضوءًا في المساء على أبوابها، فقد نخشى أن يعتاد الناس على رؤية فراغ السوق"، ويختم حديثه مع منصة القدس 360: " كل أشكال البقاء التي نتمسك بها هي رسائل صمود وحفاظ على هوية القدس العربية، وأن فتح الدكاكين رغم الخسارات الفادحة هو فعل مقاومة بحد ذاته... فنحن حراس هذه الأسواق من الأقدام الغريبة والعزلة التي تحاول طمسها".
يدرك المقدسيون تمامًا معنى أن تغيب نداءات الباعة عن أسواق البلدة القديمة فجرًا، وأن تُطفأ الضحكات التي كانت ترسم حياةً على وجوه المقدسيين وهم يتجولون في الأسواق، لتبقى الأزقة رهينة عربدة الجنود وصخب احتفالاتهم، تمامًا مثلما يدرك التجار المقدسيون، أن ذاك النور الخافت الذي يضعونه كل مساء أمام حوانيتهم ليس مجرد ضوء، بل شهادة بقاء، ورسالة تقول للمحتل: "نحن هنا.. باقون هنا، وأسواقنا ستبقى حية لن تموت مهما أثقلتها بالإغلاق".